طرابلس ليست قندهار، لكن لبنان ليس سويسرا، ومن خداع النفس التصرف كأن جريمة طرابلس الإرهابية التي هزّت لبنان صاعقة في سماء صافية، فالغيوم تملأ سماء طرابلس وكل المناطق اللبنانية، وعواصف الصراعات تضرب الشرق الأوسط وبقية مناطق العالم، فلا داعش هو الخطر الوحيد في لبنان وعليه وفي المنطقة وعليها وأبعد منها، ولا عبد الرحمن مبسوط الذي قتل بدم بارد أربعة من قوى الأمن والجيش مجهول التاريخ لدى الأجهزة الأمنية التي اعتقلته وسلمته إلى القضاء، ثم رأته يخرج من السجن بعد حوالى سنة، وسمعت الآن دعوات إلى إعادة التحقيق في ظروف محاكمته.
ذئب منفرد
لا مسارعة مسؤولين إلى تسمية الإرهابي أنه “ذئب منفرد” تخفّف من أبعاد الخطر، ولا يبدل في الأمر أن يكون مبسوط من المنتمين إلى داعش أو من مناصريه، وأن ينفي كثيرون وجود بيئة حاضنة للإرهاب في لبنان. ذلك أن داعش فكرة لها جاذبية هي “إعادة الخلافة” قبل أن يكون تنظيماً إرهابياً مارس في أجزاء من العراق وسوريا “إدارة التوحش”، وليس في العالمين العربي والإسلامي ولدى الجاليات في أوروبا وأميركا وبقية القارات حصانة ضد تسلل الفكرة إلى رؤوس أشخاص متطرفين أو قابلين للتطرف والتكفير.
وعلى كثرة الأسئلة التي تثيرها جريمة طرابلس، فإن من الصعب الهرب من سؤال اجتماعي قبل أن يكون سياسياً: ما الذي يدفع شاباً عاطلاً من العمل إلى بيع ما يملكه من قليل لشراء “جبخانة” أسلحة واستخدامها للقتل العمد قبل أن يفجّر نفسه بحزام ناسف بعد محاصرته في شقة سكنية؟ لا أحد يصدق قصة “اللاإستقرار النفسي”. ولا شيء يوحي بأننا على الطريق من أمراض وأوضاع مأزومة إلى أوضاع صحية سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
تفاهة الشر
وأبسط ما فعلته جريمة طرابلس هو أنها زادت كشف هشاشة الأوضاع اللبنانية، من حيث قيل أن ردود الفعل عليها أظهرت صلابة العيش المشترك، لا بل إن الحد الأدنى المنطقي هو أن يفتح هول الجريمة العيون على الأخطار القريبة والبعيدة، لكن بعض ما حدث فتح الباب لسجالات ذات طابع خطر وسخيف معاً. شيء يذكّرنا بمقولة حنة أرندت عن “تفاهة الشر”، وشيء يمنعنا من نسيان ما نحن فيه منذ عقود… كل زلزال سياسي في المنطقة له هزات ارتدادية في لبنان.
أربع مفارقات
والمنطقة يضربها اليوم أكثر من زلزال، وهي ترقص على حافة حرب يتخوف أطرافها من وقوعها، وتسوية يتمنى أطرافها أن تحدث ولا تحدث، على طريقة الذي يأتي ولا يأتي، وأقل المفارقات في لبنان أربع:
المفارقة الأولى أن شركاء التسوية السياسية التي أنتجت الوضع الحالي يتقاتلون على الهوامش، ويحرصون على تحييد “حزب الله” وسلاحه وأدواره المباشرة في معارك المنطقة عن السجالات، لا بل ينتظرون أن يمارس دور “المرجعية” التي تعمل على “احتواء” الخلافات.
والمفارقة الثانية هي أن الأطراف اللبنانية التي لديها تحالفات متناقضة مع القوى والمحاور الإقليمية المتصارعة تحت مظلة دولية حريصة على استمرار التسوية السياسية ومعها المحاصصة الكاملة في المشاريع والتعيينات.
ولا يبدل في الأمر انتقاد التسوية من فئات داخل كل تيار ولا محاولات إفراغ التسوية من محتواها عبر معركة في غير أوانها تحت عنوان اتفاق الطائف لجهة الدعوة إلى تعديله من جهة، وتأكيد التمسك به من جهة أخرى، والكل يعرف أن الطرف القادر على أن يكون المستفيد الأول من تعديل اتفاق الطائف والتوازنات التي أرساها هو الطرف الذي يمارس “التقية”.
والمفارقة الثالثة، هي التناحر بين أطراف محلية تقف في محور إقليمي واحد، والتحالف أحياناً بين أطراف تقف في محاور إقليمية متصارعة. أما المفارقة الرابعة، فهي أن لبنان يزداد ارتباطاً بالمشاريع والمحاور الإقليمية والدولية بمقدار ما يصرّ في الخطاب على “النأي بالنفس”.
تسويات هشة
والواقع إننا في تسويات هشة، وخصومات متنقلة، واتفاقات سريعة التحول إلى خصومات، حتى عندما يضطر أهل الغطرسة إلى التواضع، فإنهم لا يقدمون سوى الشعارات والخطابات رداً على سؤال بسيط، ماذا نقدم للشباب اللبناني، ولا سيما المتخرّج في الجامعات، غير البطالة والهجرة والتمييز في إدارة الشأن العام بين المتحزّبين والمستقلين، ولو كانت كفايات المتحزّبين متواضعة، وكفايات المستقلّين عالية؟
ولماذا الإصرار على تجريد الإدارة من صفتها في الأنظمة المتقدمة وهي “الخدمة المدنية”، وإخضاعها بالكامل للتسييس؟ وكيف يمكن التوفيق بين عهد قوي ودولة ضعيفة أو بين جمهورية قوية وجمهور منقسم؟ وماذا عن الإرهاب الآخر الذي تمارسه دول دواعش؟
“حديقة خلفية” لسوريا
المشكلة العميقة في لبنان اليوم هي التناقض بين جوهر وجوده وبين المطلوب منه، جوهر وجوده هو أنه أرض حرية يمارسها شعب يحب الحياة لكنه يفضل الموت على فقدان الحرية، وتحرسها دولة تضمن العدالة والازدهار والأمن، والمطلوب منه أن يكون في وقت واحد كل شيء باستثناء أن يصبح وطناً كامل الأوصاف: “حديقة خلفية” لسوريا، “منصة صواريخ” لإيران، “خيمة كبيرة” للنازحين السوريين، “منطقة عازلة” لإسرائيل، “ساحة” لصراع المحاور الإقليمية والدولية، “منطقة اصطياف” للمنطقة، “مرصد” للغرب الأميركي والأوروبي، “جبهة متقدمة” في محاربة إسرائيل، “فرصة انفتاح” لروسيا والصين، و”ديمقراطية” هي حصيلة الجمع بين 18 ديكتاتورية داخل كل طائفة .
وهم يعرفون أن هذه مهمة مستحيلة، لكن اللعبة هي الرهان على لبنان سوريالي في منطقة تراجيدية.
اندبندت