اليمين الفرنسي بين مطرقة ماكرون وسندان ديغول

اليمين الفرنسي بين مطرقة ماكرون وسندان ديغول

شهدت فرنسا، قبل أيام، واقعة سياسية وحزبية نادرة وغير مألوفة، على امتداد 60 سنة ونيف من عمر الجمهورية الخامسة التي تحكم فرنسا من حيث دستورها وقوانينها ومواضعاتها. وعلى نقيض ما هو متعارف عليه في الحياة الحزبية الفرنسية فقد بادر 72 من رؤساء البلديات وأعضاء المجالس المنتخبين على لوائح اليمين والوسط إلى نشر رسالة جماعية في صحيفة أسبوعية واسعة الانتشار، أعلنوا فيها التالي: «نحن في صفّ الراغبين بالنجاح الحتمي لفرنسا، ولهذا فإننا نرغب في نجاح رئيس الجمهورية والحكومة، إذْ لا شيء يمكن أن يُبنى على فشلهما»؛ مؤكدين دعم سياسات الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، وسعيهم إلى وضع حدّ لـ«شجارات الكنائس الخاصة» و«المعارضة على طول الخط». وفي عداد الموقّعين على الرسالة، ثمة رؤساء بلديات كبيرة أو متوسطة من حيث الحجم، مثل أنجيه (حيث كريستوف بيشو قائد الحملة)، وتور، ونانسي، وأميان، والدائرة التاسعة في باريس.
البعض وضع الواقعة في سياق الهزيمة النكراء التاريخية التي مُني بها التحالف الذي ينتمي إليه هؤلاء، في انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، والتي أسفرت عن استقالة رئيس الحزب لوران فوكييه والرقم الثاني في التحالف فاليري بيكريس؛ وهذا تقدير صحيح بالطبع، إذْ من المألوف أن يغادر البعض القارب الغارق إلى يابسة نجاة من أي نوع. لكنه مظهر السطح في الواقع، والسبب القريب المباشر الذي يعكس تطوّراً جوهرياً أكثر عمقاً، ابتدأ مع صعود الماكرونية قبيل وبعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وكانت أبرز مآلاته تفكيك الحزبين الرئيسيين، أو التيّارين اللذين هيمنا على الجمهورية الخامسة: اليمين، في أصوله الديغولية وتنويعاته الليبرالية؛ واليسار، متمثلاً في الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وتيارات الاحتجاج والخضر والبيئة. ولهذا لم يكن مستغرباً أنّ موقّعي رسالة الـ72 ذكّروا زملاءهم في تحالف اليمين والوسط أنّ ماكرون اختار واحداً من أسرتهم لرئاسة الوزراء، وأنّ سياساته في الإجمال كانت أقرب إلى اليمين منها إلى اليسار.
وقد يساجل البعض بأنّ ظاهرة تفكك الأقطاب التاريخية لا تقتصر على فرنسا، بل باتت ظاهرة أوروبية بامتياز، خاصة إذا قُرئت على ضوء صعود أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية؛ وهذا تقدير صحيح بدوره، منطلقه موضوعي منبثق من لائحة شروط سياسية واقتصادية ــ اجتماعية وإيديولوجية وثقافية تخضع لها الغالبية الساحقة من الديمقراطيات الغربية. وفي الوسع الذهاب أبعد، أو أعمق لمَنْ يشاء، حيث السرديات الكبرى تعرّضت لهزّات عارمة، سواء في قطبها الرأسمالي أو ذاك الاشتراكي؛ أياً كانت الرواسب التي تبقّت من مدلولات المصطلحين والقطبين، وبصرف النظر عن التطورات (العاصفة بدورها، للتذكير) التي انتهكت الاستقرار الخادع للمفاهيم والمقولات والمنظومات، حتى تلك التي اتخذت معماراً جذاباً يبشّر بنهاية التاريخ أو بصراع الحضارات.
لفرنسا خصوصياتها، مع ذلك، بالنظر إلى أنها بلد الثورة الفرنسية وحاضنة تراث اليعاقبة، فضلاً عن أنها نقلت شرارة انتفاضة 1968 الطلابية، ولكن السياسية والاجتماعية والفكرية أيضاً، إلى مناطق الزلازل الفعلية أو الكامنة في معظم أرجاء أوروبا. ولم تكن شطحة عابرة، يانكية الطراز أو حتى هوليودية التأويل، أنّ معلّقاً أمريكياً يمينياً مثل جيم هوغلاند اختار نعت «الجنون» في توصيف الاحتجاجات النقابية والمطلبية المختلفة التي تجتاح فرنسا بين الحين والآخر. ولم يكتفِ هولاند بهذا، بل ردّ «جنون» هذه الأيام إلى جنون 1789، سنة الثورة التي لم تغيّر فرنسا مرّة وإلى الأبد، فحسب؛ بل قلبت أوروبا قاطبة، رأساً على عقب كما يجوز القول.

السرديات الكبرى تعرّضت لهزّات عارمة سواء في قطبها الرأسمالي أو ذاك الاشتراكي، أياً كانت الرواسب التي تبقّت من مدلولات القطبين، وبصرف النظر عن التطورات التي انتهكت الاستقرار الخادع للمفاهيم والمقولات والمنظومات

في المقابل، ومع حفظ الفارق الكبير عن هوغلاند، كان بيير بورديو، المفكر الفرنسي الكبير الذي رحل عن عالمنا، أحد القلائل الذين أقلقتهم شبكة العلاقات المعقدة بين رأس المال المعاصر وتفكك العقائد والسرديات الكبرى، بدون أن تغويهم الألعاب النظرية التي تطمس التاريخ كشرط أوّل لافتتاح السجال. ولم يكن غريباً أن يشارك، ونفر قليل من ممثّلي هذه الأقلية الفكرية، في اجتماع مع القيادات النقابية التي أدارت الإضراب شبه الشامل أواخر العام 1995، والذي أسقط حكومة آلان جوبيه. ذلك لأنّ بورديو، على نقيض هوغلاند، وضع أصبعه على الغور العميق للجرح الحقيقي، أي اغتراب المجتمع الفرنسي بين خيارين أحلاهما مرّ، بل لعلّه شديد المرارة: الليبرالية الهوجاء التي تخبط في الإصلاح خبط عشواء، والبربرية الوقحة لنفر من التكنوقراط يرون أنهم يعرفون الدرب إلى سعادة الأمّة أكثر من الأمّة نفسها. وكانت حفنة إيضاحات من بورديو، لو أنّ الرجل يقيم بين ظهرانينا اليوم ويشهد «يمين» الـ72 المنضمّ إلى «يسار» ماكرون، ستكفي للبرهنة على أنّ الفوارق بين الطرفين أقلّ من خادعة، لأنها ببساطة منعدمة في الجوهر والركائز.
خصوصية أخرى فرنسية، وإنْ كانت معظم شعوب أوروبا تنخرط فيها بهذا المقدار أو ذاك، تتصل بالقلق حول الهوية، وبالذعر من مستقبل غامض أو شبه غامض، وبالحذر من متغيرات عاتية تأخذ الفرنسي على حين غرّة وتضعه بين مطرقة الليبرالية البربرية وسندان الليبرالية التكنوقراطية، في تعبير بورديو. ومنذ أحداث عام 1968، التي أسقطت عن عرش مكين شارل ديغول نفسه، محرّر فرنسا من الاحتلال النازي وصانع الجمهورية الخامسة؛ تبحث فرنسا ـ بصمت مخدَّر تارة، وبصخب مؤلم طوراً ـ عن هوية فكرية وثقافية واجتماعية للخروج من حال تأرجح طويلة بين الماضي والحاضر؛ وبين تراث الجار الألماني على مبعدة أمتار، والحليف الأمريكي ما وراء المحيط. وفي واحد من أبعادها غير المنظورة، كانت حركة «السترات الصفراء» تقتبس تظاهرات طلاب 1968؛ مع فارق ليس البتة قليلاً: أنّ نظير جان ـ بول سارتر ليس في قلب الجموع، وأنّ مثيل بيير بورديو غائب أو يكاد، وأنّ ماكرون أكثر تسخيراً للأغلبية الديمقراطية من أن يحذو حذو ديغول!
يبقى أنّ أطرف ما انطوت عليه واقعة الـ72 هي تأكيد الرسالة على «نجاح» رئيس الجمهورية وحكومة إدوار فيليب، في الوقت ذاته الذي يشهد اعتراف ماكرون نفسه بإساءة تقدير مطالب الشارع الشعبي، وتأكيد فيليب أمام الجمعية الوطنية أنّ المرحلة الثانية من رئاسة ماكرون لن تشهد الكثير من تنفيذ الوعود التي قطعها الأخير في برنامجه الانتخابي. وهكذا فإنّ الانضمام إلى «النجاح»، حسب منطوق الرسالة، ليس سوى خديعة مفضوحة للتغطية على الفعل الحقيقي، أي تقديم طلب انتساب إلى الماكرونية؛ انطلاقاً من خلاصة صائبة التشخيص في الواقع، هي أنّ الرجل بات يجسّد لقواعد اليمين الفرنسي المعاصر ما عجزت عن تجسيده قيادات اليمين ذاتها من جهة؛ أو ما فشلت أصلاً في تلمّس ملامحه، من جهة ثانية. فالمركب واصل الغرق التدريجي، منذ فشل ساركوزي في الفوز برئاسة ثانية، وانهيار ترشيح فرنسوا فيون تحت ضغط مسلسل الفضائح، وصولاً إلى اللهاث الفاشل خلف مارين لوبين واليمين المتطرف العنصري.
ويبقى أنّ واقعة الـ72 تعكس، كذلك، واحدة من المعضلات المزمنة للأنظمة الديمقراطية الغربية المعاصرة: أنّ المواطن يذهب إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أغلبية ما، في رئاسة الجمهورية والبرلمان والبلديات، كما هي حال الماكرونية الراهنة؛ ثمّ يخرج إلى الشوارع متظاهراً ضدّ الكثير من قوانينها، التي لم تخف هذه الأغلبية العزم على تشريعها قبل انتخابها؛ أو أن تلجأ بعض أطراف معارضة هذه الأغلبية، كما في مثال تحالف اليمين والوسط، إلى الالتحاق بصفوف الأغلبية، بعد المرور بسيرورة تفكك ذاتي!
أو، في اختصار المفارقة: بعد معاناة قاتلة بين مطرقة ماكرون وما تبقى من سندان ديغول!