في ذكرى إنشاء الأمم المتحدة

في ذكرى إنشاء الأمم المتحدة

ab70338.jpg

مرّ على إنشاء هيئة الأمم المتحدة سبعون عاماً، فقد تم توقيع ميثاقها بتاريخ 26 يونيو/حزيران من عام 1945، في ظرفية دولية حرجة، كان العالم قد خرج فيها للتو من حرب مدمرة، ولذلك كان الرهان كبيراً على هذه الهيئة لدعم السلام وتحقيق التنمية وتعزيز حقوق الإنسان عبر العالم، وتجنيب الأجيال القادمة ويلات الحروب والصراعات.
جعلت الأمم المتحدة من حفظ السلم والأمن الدوليين أهم مرتكز لوجودها (الفقرة الأولى من المادة الأولى للميثاق)، ومن أجل تحقيق هذا المطلب العالمي الملح حاولت هذه الهيئة الاستفادة من أخطاء الماضي، وبخاصة في ما يتعلق بهفوات عصبة الأمم، التي شكل اندلاع الحرب العالمية الثانية إعلاناً رسمياً لوفاتها، وقد نهجت الهيئة في سبيل ذلك مسلكين:
الأول، ذو طابع وقائي؛ ويتلخص في العمل على منع الأسباب المهددة للسلم والأمن الدوليين، وتوفير المناخ الدولي الملائم والمناسب لخلق علاقات دولية ودية، يطبعها التعاون والإخاء و«جعل هذه الهيئة مرجعاً لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك هذه الغايات المشتركة» (الفقرة الرابعة من المادة الأولى من الميثاق)، وتبني مجموعة من المبادئ التي ألزمت بها المنظمة نفسها وأعضاء المجتمع الدولي أيضاً (المادة الثانية من الميثاق الأممي)، من قبيل المساواة في السيادة بين الدول (الفقرة الأولى من المادة الثانية) وتنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية (الفقرة الثانية من المادة نفسها) وفض المنازعات بوسائل سلمية (الفقرة الثالثة من نفس المادة) وعدم التهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلاً في العلاقات الدولية (الفقرة الرابعة من المادة نفسها) وتقديم العون للأمم المتحدة (الفقرة الخامسة من المادة نفسها) وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول (الفقرة السابعة من نفس المادة).
والثاني؛ ذو طابع علاجي، ويتلخص في تدخل المنظمة بأجهزتها المختلفة في حل المنازعات القائمة، بشكل سلمي بموجب مقتضيات الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة؛ أو بصورة زجرية بواسطة مجلس الأمن في إطار مقتضيات الفصل السابع من الميثاق التي تتيح للمجلس هامشاً هاماً وسلطة تقديرية واسعة لتحديد الحالات النقيضة للسلم والأمن الدوليين، وتوصيف ما إذا كانت تنطوي على تهديد أو إخلال بالسلم والأمن الدوليين أو حدوث عدوان؛ قبل مباشرة إجراءاته للرد على هذه الممارسات وإعادة الأمور إلى نصابها.
غير أن ظروف الحرب الباردة ألقت بظلالها على هذه المنظمة؛ وانتقل الصراع بين المعسكرين، الشرقي والغربي، إلى داخل هذه المنظمة، وبخاصة على مستوى استعمال حق الاعتراض بصورة مكثفة من قبل الجانبين، الأمر الذي منعها من تحمل مسؤولياتها المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين؛ ما جعل العديد من المنازعات والقضايا تدار خارج إطار هذه المنظمة، وهو ما تمخضت عنه مجموعة من الأزمات الخطرة التي كادت في مجملها تعصف بالأمن والسلم الدوليين، وتدخل العالم في متاهات حرب نووية مدمرة.
ورغم ما بذلته هذه المنظمة من جهود، وبخاصة على مستوى تفعيل دور الجمعية العامة في حفظ السلم والأمن الدوليين بعد صدور قرار الاتحاد من أجل السلم؛ الذي مكّنها من تولي مسؤوليات المجلس في حال عدم القدرة على تحمل واجباته المرتبطة بحفظ السلم والأمن الدوليين رغم وجود حالة تستدعي التدخل، بسبب الإقبال على استعمال حق الاعتراض، وكذلك من خلال عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلام، فإن هذه الجهود ظلت محدودة مقارنة مع حجم التحديات والمخاطر التي واجهت المجتمع الدولي برمته.
وعندما انهار الاتحاد السوفييتي وانتهت الحرب الباردة، ساد اعتقاد قوي بأن هذه المتغيرات ستسهم بشكل كبير في تفعيل العديد من بنود الميثاق الأممي التي ظلت معطلة زهاء نصف قرن؛ وتنعكس بالإيجاب على أداء هذه المنظمة.
غير أن الممارسة الدولية أثبتت بما لا مجال للشك فيه أن تفعيل الأمم المتحدة جاء بشكل منحرف وفي مواجهة الضعفاء فقط؛ فالولايات المتحدة التي استفادت كثيراً من غياب الاتحاد السوفييتي عن الساحة الدولية؛ احتكرت اتخاذ القرارات الحاسمة باسم هذه المنظمة؛ بل ووجهتها في مناسبات عدة خدمة لمصالحها؛ بشكل بدت معه كآلية من آليات تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية.
وإذا كانت المنظمة نجحت إلى حد كبير على مستوى تفعيل السبل الوقائية لحفظ السلم والأمن الدوليين، عبر بلورة مجموعة من الآليات المرتبطة بالحد من الأزمات من خلال حفظ السلام، صنع السلام، بناء السلام والدبلوماسية الوقائية التي تسعى لمواجهة واحتواء العوامل المسببة للنزاعات والأزمات قبل حدوثها، أو من خلال جهود وكالاتها المتخصصة في المجالات التنموية والصحية والتربوية والتقنية، في مختلف مناطق العالم؛ وفي تعزيز التعاون الدولي في مختلف المجالات، فإن عملها على مستوى التدخلات الزجرية لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لرد العدوان بعد نهاية الحرب الباردة؛ تميز بنوع من الانحراف تارة، وعدم الفعالية تارة أخرى.
وكشفت الممارسة أن المنظمة الدولية تفتقد الإرادة المستقلة عن إرادة القوى الدولية الكبرى، مما يشكك في صفتها الدولية ويسيء لمصداقيتها.
ولذلك فهي تظل بحاجة إلى إصلاح حقيقي؛ يسمح بإعادة التوازن لأجهزتها، عبر تجاوز الإشكالات المرتبطة بالتمثيلية داخل مجلس الأمن؛ وبخاصة أن تشكيلته الحالية تعكس في واقع الأمر موازين القوى التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية.
كما يتطلب الأمر إلغاء حق الفيتو أو عقلنة استخدامه؛ إضافة إلى إقرار نوع من التوازن في الوظائف بين مختلف أجهزة المنظمة، وبخاصة بين الجمعية العامة ومجلس الأمن في كل المسائل المرتبطة بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين، وتعزيز التعاون المتكافئ بينها في هذا الشأن؛ بشكل يكفل بلورة عمل جماعي متكامل وأكثر فعالية، علاوة على دعم صلاحيات محكمة العدل الدولية.
ومعلوم أن إصلاح الأمم المتحدة ينطوي على صعوبات قانونية مرتبطة بمقتضيات ميثاقها، وأخرى موضوعية وسياسية مرتبطة بمدى وجود إرادة حقيقية لدى القوى الدولية الكبرى، واستعدادها للتخلّي عن امتيازاتها داخل هذه المنظمة.

ادريس لكريني

صحيفة الخليج