الدكتور عبد الله محمد الشيخ
ما الذي يشغل العالم هذه الأيام أكثر من الصراع الأميركي الإيراني ؟ فالجميع كانوا دولاً أو تحالفات أو كيانات أو أحزاب أو جماعات أو أفراد ، ينظرون لهذا الصراع من الزوايا البرغماتية التي يتموضع كل منهم فيها ، وبالتمعن بعلميةٍ وموضوعيةٍ وتجردٍ في تناقضات وتقاربات هذه الزوايا ، تتجلى النوايا الحقيقة لطبيعة هذا الصراع ، وتتكشف تداعياته ، وتنجلي الضبابية عن نتائجه المحتملة ، أو القريبة إلى المنطق ، وفق القراءات السياسية العميقة المستندة إلى الأدلة الدامغة.
لكن ، وقبل الخوض في غمار الكشف عن طبيعة هذا الصراع وأسبابه ، ونتائجه الخفية ، ينبغي أن نطرح جملة من التساؤلات التي يمكن أن نقرأ في إجاباتها الحقائق الكامنة خلف كل ما يجري ، وأهم هذه التساؤلات: ما حقيقة وجود صراع أميركي إيراني ؟ وما هي الأسباب الحقيقية لهذا الصراع إن وجد أصلاً ؟ ومن المستفيد من نشوب صراع أميركي إيراني ؟ وما هي السيناريوهات المحتملة لهذا الصراع ؟ وإلى أين يقود التصعيد المتنامي بين طرفيه ؟ ومن هي أطرافه الحقيقية ؟ وكيف ومتى سينتهي ؟
ولكي نكون أكثر موضوعية سنلتزم الحيادية ، وسنترك للوقائع فرض سرد الحقائق ، وسنتحرك بحرية تامة بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وفق ما تقتضيه طبيعة هذا الموضوع المعقد والشائك ، آملين في كشف الحقائق الخفية للرأي العام .
وسنبدأ من النقطة التي يعتقد البعض أنها نقطة التحول في المسار الطبيعي للعلاقة بين الحليفين الغربي والشرقي المتمثلين في الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية إيران الإسلامية ، والتي يؤمن الكثيرون أن لحظة مخاضها كانت ذات اللحظة التي ولدت فيها الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979م ، وهنا لا أظننا سنصدم العالم حين نقول أن الثورة الإسلامية في إيران ما كانت لتحدث أو لتنجح لولا الدعم الأميركي ومباركة الإدارة الأميركية لها ، وأغلبية المتخصصين في الشؤون السياسية يدركون هذا الطرح ، مثلما يدركون أن الإدارة الأميركية تتعامل مع جميع عملائها دون استثناء كتعامل الأدوية من حيث صلاحيتها ، إذ تتخلى عن أوفى عملائها في التاريخ الذي تحدده لانتهاء صلاحيتهم ، بغض النظر عن طول الفترة التي تجعل منهم – أي عملائها – عملاء نموذجيون صالحون لفترات أطول ، وهذا ديدن السياسة الأميركية التي عُرفت وتميزت يه لعقودٍ طويلة ، وهنا قد يتبادر سؤال لذهن القارئ مفاده لماذا تقوم الإدارة الأميركية بتغيير عملائها بعملاء آخرين كانوا أوفياء في عمالتهم لها ؟ والجواب ببساطة شديدة يكمن في إيلاء الإدارة الأميركية لمصالحها الذاتية الدرجة الأساس ، وتفضيلها على أية مصالح أخرى ، فضلاً عن أن الإدارة الأميركية لديها سياسة غامضة ومتقلبة في ظاهرها ، لكن المتخصص فيها أو المتمعن في جوهرها يلاحظ أنها سياسة تسير في اتجاهٍ واحدٍ ، وإن تعددت مساراته أو تنوعت ، تولي كل اهتمامها بالمصلحة العليا لأميركا ، وفق المقولة الشهيرة “أنا ومن بعدي الطوفان” .
وهنا تكمن الإجابة عن أسباب التحول في تغيير الولايات المتحدة الأميركية للنظام في إيران ، وإن كان تحولاً غير متوقعٍ لدى الكثيرين من غير المتعمقين في السياسة الأميركية ، خصوصاً عند النظر إلى الاختلاف الكبير بين الأيديولوجيتين المتعاقبتين على الحكم في إيران ، ونقصد بهما النظامين المنتهي الصلاحية ممثلا بنظام الإمبراطورية الفارسية الديكتاتورية التي يمثلها الشاه محمد رضى بهلوي ، والنظام ذي الصلاحية الجديد والمتمثل بالحكم الرجعي المللي في طهران ، إذ أن المصلحة العليا للولايات المتحدة الأميركية تقتضي ، بل وتستوجب هذا التحول الكبير والمتناقض ، والأسباب الظاهرية لهذا التحول كثيرة ومتنوعة ، أهمها إيهام العالم بأن الولايات المتحدة دولة ديموقراطية تحررية تدعم الديموقراطيات في العالم الثالث ، وتساند الحركات التحررية فيه ، وهو في جوهر الأمر عملة واحدة وإن حملت وجهين مختلفين ، أهم ما يميز هذين الوجهين المصلحة الأميركية العليا ، وللمشكك في هذا الطرح يمكنه العودة إلى الوثائق التي سربها البيت الأبيض قبل سنواتٍ عدة والتي تكشف وبما لا يقبل التشكيك أن ضباطاً كباراً في البنتاغون الأميركي هم أبرز من ارتدو الزي المللي وقادوا الثورة الإسلامية في إيران ، في الوقت الذي كان فيه الخميني يُجَهَّزُ خلف الكواليس الهوليودية – فرع باريس – ليكون البطل الأسطوري القادم بمشروعه التحرري الجديد ، المشروع الذي رافقه منذ لحظات مخاضه الأولى الأزمة المفتعلة التي يقتضيها السيناريو الدرامي الذي رسمه البيت الأبيض كجزء من استراتيجياته الإقناعية ، والمتمثل بالحادث الشهير في اقتحام السفارة الأميركية في طهران ، وما دار فيها من أزمات وحبكات درامية انطلت على الكثير ممن عاصروها ، وهنا تكمن مهارة البيت الأبيض في ممارسة الألاعيب والاستراتيجيات الإقناعية .
لكن ، ما الفائدة التي تسعى الإدارة الأميركية لتحقيقها من كل هذا ، الإجابة ببساطة شديدة أيضاً تكمن في أن نظام الشاه وإن كان نظاما تابعا للإدارة الأميركية ، إلا أنه لم يعد يحقق لها الأهداف البرغماتية التي تسعى إلى تحقيقها ، بينما النظام المللي القادم سيحقق لها هذه الأهداف ، إذ أن هذا النظام الجديد في طهران عديم الخبرة في إدارة البلاد من جهة ، ويحتاج إلى دعم الولايات المتحدة ، وإن كان دعما خفياً ، من جهة ثانية ، كما أنه يتيح لها – أي للإدارة الأميركية – الفرصة للابتزاز الذي برعت فيه هذه الإدارة في تاريخها الطويل ، سواءً في شرق آسيا ، أو في أميركا الجنوبية ، أو في أوروبا الشرقية ، أو في غيرها من البلدان ، وهنا يجسد الابتزاز للإدارة الأميركية غايات أفضل وأهم بكثير مما تحققه التبعية لها .
وبصورة مباشرة أكثر ، يمكن العودة إلى ذات العام الذي قامت فيه الثورة الإسلامية في إيران ، وهو ذات العام الذي زجت فيه إيران بحربٍ عبثية مع العراق طيلة ثماني سنوات ، كلفت الطرفين الكثير من الخسائر المادية والبشرية ، وخرجت منها إيران منهكةً في جميع الجوانب ، وكان الرابح الأكبر من هذه الحرب هو الولايات المتحد الأميركية ، أكبر مصنعٍ ومصدرٍ للسلاح في العالم ، من خلال بيعها الأسلحة للطرفين المتحاربين للسنوات الثمان .
وعندما أحست الإدارة الأميركية أن لعبتها هذه ربما باتت مكشوفة لدى الأغلب ، وأن صناعتها هذا الغول الجديد الذي يمكنها من ابتزاز دول الخليج بصفةٍ خاصة ، ودول المنطقة بصفةٍ عامة ، والمجتمع الدولي بصفةٍ أعم ، الغول الذي أوهمت العالم أنه سيبتلع الجميع ، وأن لديه مشروع توسعي رجعي مخالف لدول المنطقة عقائدياً وفكرياً ، هنا قررت السياسة الأميركية أن تغير مسارها وفق مقتضيات الحاجة ، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الإيرانية العراقية التي أشعلتها أساساً الإدارة الأميركية ، وبعد قياسها لنتائج تلك الحرب ، وتقديرها أن إيران خرجت منها منهكة كلياً ، قررت أميركا أن تغير اللاعبين في المنطقة ، وقامت بتعديلات على السيناريو الدرامي الذي رسمته قبل سنوات ، وتمثل هذا التعديل بتغيير اللاعبين الأساسيين في المنطقة ، وقامت بتغيير الأقنعة ، فألبست قناع الغول الذي أصبح أكثر خطراً على المنطقة والعالم من إيران للعراق ، وضربت بذلك عصفورين بحجرٍ واحد ، حيث ألهت المنطقة والعالم بخطرٍ جديد هو نظام صدام حسين في العراق ، وتبنت الزعامة في القضاء عليه ، ولا يخفى على أحد المكاسب المادية التي حققتها الإدارية الأميركية من هذه الخطوة ، الخطوة التي تزامنت وتوازت مع إتاحة الولايات المتحدة الأميركية الفرصة الذهبية لنظام طهران في الاستفادة من إعادة انتشاره وبصورة أكثر خطورة ، إذ منحته الفترة التي يحتاجها لترفع من سقف ابتزازها مستقبلاً وعند اللزوم ، وذلك خلال الأعوام الممتدة من العام (1988) ولغاية العام (2003) ، وهي الفترة التي عمدت الإدارة الأميركية إلى لفت الأنظار صوب العراق ، وغض الطرف عن إيران ، الأمر الذي أعطى للأخيرة – أي إيران – الفرصة – بإشرافٍ أميركي مؤكد – إعادة إنتشارها في المنطقة لتكون الخطر الأكبر الذي ستثيره أميركا للعالم عندما تقرر ذلك ، وهو فعلاً ما حدث ، إذ لجأ النظام في طهران خلال انشغال العالم بمحاربة نظام صدام حسين إلى إعادة بناء نفسه ، وزرع أذرع له في العديد من البلدان وخاصة في سوريا والعراق والبحرين واليمن .
وعندما أدرك العالم زيف المزاعم الأميركية حول امتلاك نظام صدام حسين لأية أسلحة كيماوية أو نووية ، وكان الأوان قد فات ، كان نظام طهران قد سار على نفس الخطى التي رسمها له السيناريو الهوليودي الأميركي ، الذي سلمه العراق على طبقٍ من ذهب ، لحسابات برغماتية واضحة لدى الولايات المتحدة .
وهنا ، وبما لا يقبل الظن أو التشكيك ، لجأت الإدارة الأميركية إلى توجيه الأنظار مرة أخرى صوب الغول الإيراني الذي تعاظم خطره أثناء انشغال الولايات المتحدة والعالم في محاربة مَن ظنوا أنه أعظم خطر من إيران ، أي نظام صدام في العراق ، ليعود بحلةٍ جديدة أكثر شراسةً ، ويشكل خطراً أعظم مما كان يشكله سابقاً ، وبما يعطي فرصاً أكبر لها – أي الإدارة الأميركية – في ابتزاز دول المنطقة مادياً ومعنويا ، من خلال إيرادات مبيعاتها لها فيما يخص عقود التسليح ، أو من خلال جبايتها مبالغ طائلة نظير توفيرها الحماية لسيادة تلك الدول من أطماع الغول الإيراني الجديد الذي هو أصلاً ثمرة زرعها في المنطقة .
ووفقاً لمقتضيات المرحلة ، وبما يضمن للإدارة الأميركية من تحقيق أهدافها المرجوة ضمن الجغرافيا الشرق أوسطية التي ارتأت فيها أهم كنزٍ يدر عليها ثروات طائلة ، عمدت إلى افتعال الأزمات والخلافات بينها وبين نظام طهران ، النظام الذي يُظهر عداءً غير مسبوقاً للكيان الصهيوني ، وهو في باطنه آخر الأنظمة التي تشكل خطراً حقيقياً على أمن إسرائيل ، في الوقت الذي يشكل خطراً على المنطقة ، خصوصاً بعد أن نجح – بمساعدة أميركية – من زراعة ميليشيات موالية له في المنطقة ، والغاية ذاتها ، ابتزاز المنطقة من قبل الولايات المتحدة ، تستغله في الوقت الذي حددت له تاريخ صلاحيته ، بعدها تنهيه وتتجه لصناعة خطرٍ آخر في المنطقة التي تمكنها من تحقيق مكاسب مادية كبيرة .
وبناءً على ما تقدم ، يمكن استشفاف الإجابة عن التساؤل الأخير الذي طرحناه بداية الدراسة ، والمتمثل بكيف ومتى سينتهي الصراع الأميركي الإيراني ، والإجابة أبسط مما يتصور البعض ، فلا مواجهات عسكرية محتملة ، على الأقل في الوقت الراهن ، طالما لا يزال هذا الصراع يتيح للولايات المتحدة ممارسة ابتزازها لدول المنطقة .
وفي الوقت الذي يقرر فيه راسم السيناريو الأميركي أنه ينبغي عليه تغيير المسار الدرامي ، وتوجيه الأنظار نحو عدوٍ إقليميٍ أو دوليٍ جديد ، حينها سيقرر كيف ومتى سينهي الغول الإيراني ، وقد لا تكون نهايته ببعيدة عن نهاية نظام صدام حسين في العراق .
نتحلى بالصبر وننتظر اكتمال الجزء المخصص للصراع الأميركي الإيراني في الفيلم الأميركي الذي لا زالت مشاهده تصور حالياً ، لكن ليعلم الجميع أنه لا مواجهات عسكرية حقيقية مرتقبة بين الطرفين ، فكل ما يجري عبارة عن فيلم هوليودي الصنع بامتياز .
وحدة الدراسات السياسية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية