تزامنت ضربات داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) في دول الخليج العربي مع حركة تقدم حققها في العراق واستعادة بعض توازن الرعب في عين العرب (كوباني) ضمن الصراع الذاتي أو المدفوع من القوى الدولية والإقليمية، المستثمرة لتحركات الجانبين.
وقد بات تقدم داعش على الأرض وتسجيل حضوره المختلف وزحفه للعمق الخليجي، في وضعية لم تسبق خاصة من خلال نوع العمليات السهلة الهادفة إلى تفجير حرب طائفية كبرى بين المدنيين، يعبر عبرها التنظيم إلى مشروع الأرض المحروقة التي تمكّنه من خوض الحرب الكبرى، لاسترداد دار الدعوة بحسب مفاهيمه وعقائده.
وقبل الاستطراد نؤكد على معطى معيّن مهم، وهو أن المقال يقرأ صناعة داعش للموقف بناء على فكرتها وقراءتها للعمق العقائدي الذي تنتمي إليه، وليس بالضرورة مطابقة هذه القراءة لواقع تجارب سياسية أو دينية في المنطقة.
فهذا بحث واسع ليس هذا مقامه. وخاصة حين يطرح مفهوم الفكر السلفي ذي الحضور القديم في القرون المتقدمة وأطره المتعددة، ومنها المعتدل وفيها الغالي المتطرف، والذي لا يلزم منه انتماء داعش لكل أصوله ومناهجه المنتمية إلى أطر اجتهادية لتاريخ التشريعي السني، وإن وجدت حالات واجتهادات غلو كمنت فيه وفي بعض شخصيات الغلو السلفي.
ولتسهيل الفكرة على القراء، نعرض لها في نقاط متسلسلة توضح المعنى:
1- نفذت داعش كل العمليات الإرهابية الأخيرة في شرق السعودية وفي الكويت تحت مسمى الفرع الجديد لها (ولاية نجد) فيما العمليات تنفذ في ساحل الخليج العربي، وإن كانت لا تعترف بمسميات الدول الإقليمية لكن نلاحظ أنها لا تعترف بمسمى هذه المنطقة من ساحل الخليج العربي، ولا بتاريخها الإسلامي في العصور المتقدمة ولا حتى بالمسمّى الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو البحرين الذي تضم كل ذلك الساحل.
ولا علاقة لذلك بتخطيط سايكس بيكو وتقسيم الدول، بل هو سابق له في أفق داعش، فالدولة العثمانية أصلا هي دولة (كافرة خاسرة) حتى ولو واجهت الصليبيين، لكونها مشركة لدى داعش وأصولها التشريعية.
2- وحين تخصص داعش ولاية نجد فهي تشير إلى مفاصلة عقائدية مع أهل السنة -وفق مفاهيمها- ليس في الخليج العربي وحسب، بل مجمل العالم السني، فهي تنتمي لصفاء عقائدي هي من تحدد معالمه، يَعتبر هذه المنطقة الجغرافية تحت ولايته السياسية وإن لم يكن تاريخها وسنّتها المنتمية لتاريخ التشريع الإسلامي، ومذاهبه الأربعة بالجملة، ممن ترضى لديها، ولذلك تدير أرضهم بولايتها العقائدية.
3- هذه الفكرة قوية جدا في التعبئة العقائدية لداعش، وهي تقوم على نوعين من التكفير، التكفير العقائدي الأصلي والتكفير السياسي، وهو ما يتزامن في تكفيره العقائدي، مع موقفها الأخير من نزع ولاية الملا عمر وطالبان، ومفاصلة جيش النقشبندية في العراق، رغم أن الملّا عمر كان يعتبر حليفا ملهما للسلفية الجهادية، أمام الصليبية العالمية، وذات الموقف يتكرر مع جيش النقشبندية الحليف الاجتماعي قبل أن تكبر داعش وتبتلع نفوذه السياسي في العراق عبر فرع حزب البعث.
وما سنعرضه من تفصيل هنا يبين خطأ فكرة أن التنظيم يوجّه من حزب العبث، الذي تكفره داعش، وما جرى من تقاطع لم يكن إلا أرضية تكتيك ثم إستراتيجية لمواجهة المشروع الأميركي والشيعي الطائفي، بحسب موقف حزب البعث، وما جرى تحته من ضرورات تنسيق عشائري أمام التحالف الأميركي الإيراني ضد مناطق العرب السنة.
في حين أن توجهات البغدادي وخطابه، ومشروع ولاية نجد، يعطي حسما لانتمائه العقائدي الكامل للسلفية الطائفية التي تؤمن بها داعش، وإن أثّرت بعض سلوكياتهم بوسائط مشتركة مع حزب البعث العربي.
4- هذا التكفير العقائدي يعتمد نفس المفهوم للسلفية الطائفية، وهو أن الأمة السنية أمة مرتدة عن صحيح العقائد، وإن انتمت جغرافيتها للمنظومة السنية، وهي مرتدة لدى داعش بكل تراثها الشرعي وجهاد ومقاومة شخصياتها وقادتها ومدارسها عربا وعجما، فهي تنتمي لهذا التصنيف التكفيري عقائديا.
وهذا ما تقرره المصادر الشرعية التي تعتمدها داعش، فضلا عن أدبياتها الضخمة ومعرّفات تويتر الموثّقة وسياقات قرارات المناهج الدينية لديها.
5- لم تطرح داعش قبل هذه المرحلة، مثل هذه المفاصلات مع عقائد أهل السُنة أو مدارس السلوك أو الفقه، عبر الحراك الميداني، ولكن تخضعه لمصالحها التكتيكية المختلفة، وتقديرات استثماراتها، وهي بالجملة ترفض كل فكر إسلامي انتمى لهذا التشريع تأصيلا أو تأسيسا لفضاء الوعي الإسلامي الإنساني المعاصر، ومساحة الاجتهاد المشروع، الذي لا تعترف به وتراه من ركام الردة.
6- أمّا التكفير السياسي فهو ما تعتمده داعش كموقف يجب أن يلتزم به كل مسلم آمن بعقيدتها الأصلية ومفاصلتها، وما ينطق به مشروعها السياسي في خلافة البغدادي، فإن رفض -ولو صحّت عقيدته الأصلية لديها- فهو كافر أو ضال، عبر معيار التكفير السياسي، ويحل دمه أو قمعه، وقد تجد مرجعا دينيا ضخما، تعتمد داعش كتبه في العقائد ولكنّها تكفره سياسيا وتتوعده.
7- وقرار داعش اعتماد مسمّى ولاية نجد، يسعى لهدفين خطيرين، الأوّل فتح الصراع بقوة، مع الدولة السعودية لاسترداد دار الدعوة في نجد.
8- الثاني هو الاستفادة من مخزون التكفير العقائدي من أكثر من ثلاثة عقود، بعد أن أعيق خطاب حركة الإحياء الإسلامي السني بخطاب التعصب المذهبي والتضليل، الذي تضخم كثيرا خاصة في مناطق الخليج العربي، وتستهويه هذه المفاصلة العقائدية مع مدرسة أهل السُنة، وحمل الناس على الطهرانية العقائدية التي تؤمن بها داعش وتفسيرها للدعوة، وعليه فإن معركة داعش اليوم معركة مركزية جادة في هذا السياق.
هذا من حيث أصول الفكرة والتعبئة العقائدية الأصلية التي تختلف مع فكرة القاعدة وإن اعتنق قادتها فكرا سلفيا متشددا، لكن الهدف المعلن لها هو تعبئة الفرد نحو حماية المسلمين من اليهود والصليبيين، ثم انحرفت إلى قتل المدنيين، وتطوّر التطرف بناء على رد الفعل أو الحصار أو تأزم أو لاختراق لتطرف عقائدي أكبر، ولكنها بقيت كرمزية أو جسم قبل أن تواجهها داعش اليوم، وتكفر أجنحتها وتبتلع الكثير من مناطقها.
ولسنا هنا نلغي أسباب تغذية داعش وتمكينه من نفوس الشباب، سواء عبر القهر السياسي الكبير الذي عاشه الوطن العربي وربيعه وخاصة في مصر وسوريا، ونقض كل أمل سياسي أو عبر ممارسات السلطات الأمنية فيه، لكن هذا البعد العقائدي بقي كامنا ومؤثرا فيه.
أما البعد الآخر فهو بدء داعش لعمليّاتها، بعد أكبر موجة من الوحشية والإرهاب عاشها الشرق الإسلامي منذ تعاون واشنطن وإيران ضد المشرق الإسلامي، من احتلال العراق وأفغانستان إلى مذابح سوريا إلى اليمن، وصناعة مليشيات التوحّش في بعض جماعات الأقلية الشيعية والعلوية وتكثيف الضخ الطائفي التكفيري الشيعي، وبالتالي خلق أرضية لداعش تستقطب بها هذه الأعداد الضخمة، قبل وبعد ولاية نجد، والتهيئة للتفجير الكبير.
وقد ساهم في ذلك غياب آمال الإصلاح السياسي، واضطراب المثقف العربي والرأي العام، الذي يصرخ عند كل عملية على إيران، دون أن يعترف بواقع استثمار إيران لهذه الجماعة فكريا، ومن داخل بيته ومحيطه، ودون أي مشروع لدول المنطقة، يتقدم خطوة واحدة لغلق منافذ داعش وأصول التكفير العقائدي والسياسي داخل مجتمعه وخطابه الديني، لا خضوعا لموقف الغرب والحملات الطائفية لكن إيمانا بأصل مفاهيم الرسالة الإسلامية.
وعليه فإن هذه الفوضى التي تستشري، تمكن داعش من تحقيق موضع قدم جديد، وهي تبدأ اليوم بتفجير محافل الشيعة المدنيين ومصليّاتهم، لكنّها لن تتوقف عند ذلك، خاصة في معركة استرداد دار الدعوة التي تعتقدها، وبالتالي فهي تسعى لأن يتجه المشهد نحو انفلات كامل، وخلق جغرافية سياسية جديدة من الواضح أنه سيقتسمها النفوذ الدولي والإيراني وإن أشبع بالشتم، ضمن حرب طائفية تجتاح المنطقة قد تهلك الحرث والنسل إلا من يرحمه الله.
ولسنا هنا نزعم بأن مثل هذه السيناريوهات المرعبة قدر على الأمة، لكنه تتبع لواقع وفكر يتمدد على الأرض بحسب التحليل السياسي والقراءة البحثية، ووقفه يحتاج إلى جهد كبير يبدأ من أراضي سوريا والعراق ومصر واليمن ببرنامج إقليمي ودبلوماسي لمواجهته ووقف هذه المحرقة وإنصاف الأبرياء فيها، وسياسات إصلاحية مختلفة في دول المنطقة، وتلك أمور لا تبدو لها مؤشرات في الأفق حتى اليوم، فالأماني لا تصنع الردع الوقائي.
مهنا الحبيل
الجزيرة