جرت أمس ثلاث عمليات إرهابية في تونس حصل خلالها إطلاق نار مع عناصر أمنية قرب محطة إرسال في جبل عرباطة في مدينة قفصة، وبعدها بساعات قليلة فجر «انتحاريّ» نفسه بالقرب من دورية للشرطة البلدية في شارع شارل ديغول القريب من وسط العاصمة التونسية فقتل عنصر شرطة وجرح أربعة إضافة إلى إصابة 3 مدنيين، ولحقه تفجير «انتحاريّ» آخر بعد نصف ساعة خلف إدارة الشرطة العدلية في منطقة القرجاني في العاصمة، أدى لجرح ثلاثة عناصر أمن. وتأتي هذه التفجيرات بعد قرابة سنة من هجوم انتحاري نفذته امرأة أمام سيارة للشرطة في شارع الحبيب بورقيبة وجرح تسعة أشخاص.
تحاول هذه العمليّات، بداية، الإيحاء بالتخطيط لها بإحكام كونها تجري بشكل متزامن في مناطق متعددة، وهو ما يعطيها طابعاً «عمومياً» أكبر بكثير من حجمها، وهو أمر تساعد فيه، بقصد أو من دون، وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وحتى السياسيون وأجهزة الأمن. ومعروف طبعاً أن من طبائع العقل البشريّ الارتكاس بقوّة أمام حوادث من هذا النوع في الوقت الذي لا يرتكس لظواهر بطيئة غير دراماتيكية أو غير عنيفة رغم كونها تحصد مئات أو آلاف الضحايا، كحوادث السير، أو احترار المناخ، أو ضحايا الهجرة عبر البحر، أو المجازر المستمرة لبعض الأنظمة بحق شعوبها!
تناظرت العمليات مع تداول أنباء تم تكذيبها عن وفاة الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي، لكن الوضع الصحي للرئيس كان من الخطورة بحيث دعا رئيس البرلمان محمد الناصر إلى اجتماع عاجل أمس لرؤساء الكتل البرلمانية، وذلك بعد نقل السبسي إلى المستشفى العسكري لتعرضه لـ«أزمة صحية حادة» وصفها مستشاره الخاص فراس قفراش في تدوينة له بـ«الحرجة».
وتجيء العمليات في موسم السياحة في تونس، وهو جزء كبير من الاقتصاد يعوّل عليه التونسيون والدولة الكثير، كما تأتي مع بعض الاضطراب في الوضع السياسي التونسي إثر تعديلات على القانون الانتخابي، وذلك استعداداً للانتخابات الرئاسية المقبلة في تشرين الثاني/المقبل، وكذلك على خلفيّة خارجية من المعارك اللاهبة في ليبيا، الجارة الشقيقة الأقرب لتونس، والتي تركت مفاعيل واضحة على المناطق الحدودية وكان لها بعض الآثار المتعددة، من قبيل اعتقال السلطات التونسية لعناصر أمن فرنسيين قيل إنهم كانوا يعملون على دعم قوات الجنرال خليفة حفتر.
رغم الطبيعة العدميّة لهذه العمليات فإن المخططين لها يعتقدون أنهم يوصلون رسائل «سياسية» عبر هز استقرار البلاد ودفعها إلى استقطابات حادة، فهذه التنظيمات الإرهابية لا تجد مجالاً لها للتمدد والتوسع في أحوال الاستقرار، وهي تناصب الديمقراطية العداء ولا مكان لها إلا في ظل انتشار التطرّف. ومفيد هنا التذكير أن السلفيّة المتطرّفة التي تعتبر الحركات الإسلامية التي تمارس الديمقراطية، كـ»حركة النهضة» خصماً شديداً لها، ولا توفّرها من التكفير، ولذلك فهي تجد في حركات العلمانيّة الاستئصالية سنداً موضوعيّاً لها، فالتطرّف صديق التطرّف، بغض النظر عن الأيديولوجيات، وكما ذهب عدد من السلفيين شديد التطرّف إلى سوريا والعراق للعمل تحت رايات «الدولة الإسلامية» فكذلك فعلت ميليشيات علمانيّة استئصالية، وأرسلت عناصر منها للقتال تحت رايات نظام بشار الأسد، جنباً إلى جنب، مع ميليشيات «الزينبيون» و«حزب الله» و«الفاطميون»، في مفارقة «علمانيّة» لا تخفى على الألباء.
هذه المعطيات الأخيرة تفيد أيضاً في تذكير التونسيين، وغير التونسيين، أن الحديث عن «إرهاب خارجي» سائح لا يستقيم مع حقيقة الإرهاب الذي وجد الأسباب لينشأ في تونس ويهاجر للقتال في سوريا والعراق وليبيا، فأسباب الإرهاب داخليّة قبل أن تكون خارجيّة، وهذا لا ينفي، في النهاية، أن عمليات إرهابية مثل التي حصلت أمس، ستجد مستثمرين لها، عادة ما يتخفون في ثوب معاداة الإسلاميين ولكنّهم لا يتورّعون بدورهم عن العمل الحثيث على دفن أي تجربة ديمقراطية ودعم أي دكتاتور!
القدس العربي