حول وحدة الدولة السورية

حول وحدة الدولة السورية

4df2ca8d65

ما الذي تعنيه سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مدينة تدمر، بعد أسابيع من سيطرة “جبهة النصرة” علىإدلب، وذلك بالتوازي مع تطورات الجنوب السوري؟

هل نحن بصدد منعطف تاريخي على صعيد وحدة الدولة السورية؟ وما هي صلة الأحداث الراهنة بمسار التفاعلات الإقليمية مع الشأن السوري؟ وبعد ذلك، هل ثمة معنى أو مغزى للتسويات السياسية، ومع من يُمكن للسلطة السورية أن تعقد مثل هذه التسويات؟

بداية، تجدر الانطلاقة من تعريف الحدث السوري ذاته، في مضمونه وماهيته الأولى، الفعلية أو الافتراضية.

هذا الحدث جرى تعريفه بداية على أنه مسار تغييري أو إصلاحي، تفاوتت تقديرات المحللين حول آفاقه. ولكن دون الحديث عن آلياته وسبل إنجازه.

ومنذ البدء، اختلط ما هو واقعي ومنطقي بما هو مثالي بعيد عن الواقع ومنفصل عن سنن التغيير وشروطه وأحكامه. كما جرى القفز، في الوقت ذاته، على الآليات المنطقية للعمل الوطني، وتم تعزيز المضمون الأمني للأحداث الدائرة. وجرى لاحقا تأطير هذا المضمون والسهر عليه، ومنحه كل مقومات الديمومة والاستمرار.

وعند هذا المنعطف، أضحى من الصعب تعريف الحالة السورية استنادا إلى المصطلحات والمفاهيم ذات الصلة. وكمحصلة، خسرتسوريا وتضاعفت معاناة أهلها. لكنها ظلت، على الرغم من ذلك، محافظة على إطارها وهويتها الجامعة، تماما كما فلسفة وجودها الناظمة.

ودعونا الآن نعود إلى سياق التطورات وبعض دلالاتها.
لا يشك أحد فيما تُمثله مدينة مثل إدلب أو الرقة أو تدمُر في حسابات السوريين. وعلى الرغم من ذلك، لابد من التفريق، على مستوى التحليل، بين ما هو قيمي ووطني عام، وما هو ذو صلة بتوازن القوى والميزان الإستراتيجي عامة.

إن السؤال الذي فرض نفسه أولا على السوريين، وكل المعنيين والمراقبين، هو: هل بات القُطر السوري مهددا بالتقسيم؟

الجواب: كلا. لماذا؟
أولا، ليس هناك من تشكيل سياسي أو عسكري قادر على إدامة سيطرته على محافظة أو مدينة كبيرة إلى أجل غير مسمى، والدليل هو ما يجري الآن في الرقة، وما جرى في أرياف دمشق وحمص. وإدامة هذه السيطرة يلزمها تدخل خارجي، من شأنه أن يقود إلى حرب إقليمية، بل هو على الأرجح سيقود إلى ذلك.

ثانيا، ليس هناك من القوى الدولية أو الإقليمية من يُمكنُها رعاية مشروع تقسيم علني للدولة السورية، حتى وإن دعمت سرا جماعات تمارس التقسيم على أرض الواقع. إن هذه القوى تدرك، دون ريب، أن مجازفة بهذا الحجم الكبير والخطير قد ترتد عليها على نحو وخيم وغير محمود.

ثالثا، إن من يتحدثون عن خطر التقسيم يفترضون ضمنا أن ثمة تجانسا ووئاما قائما بين التنظيمات المسلحة المسيطرة على هذه المدينة أو تلك وبين السكان القاطنين فيها. وهذا افتراض يصعب إثباته على نحو محايد.

رابعا، لا تتمتع أي من المدن أو المحافظات السورية، الخاضعة للتنظيمات المسلحة، بالمقومات الأساسية التي تؤهلها لتشكيل دولة مستقلة.

وعلى مستوى المفاهيم، من المفيد التأكيد على حقيقة أن مدينة زائد مدينة لا تساوي وطنا بل مدينتان. وقد نكون بصدد ثلاث مدن أو أربع. الوطن، أي وطن، يتكون من شعب وأرض وهوية، وابتداع الكانتونات والدويلات من رحم الوطن هو مشروع انتحاري وخيم العواقب، يقفز على مشتركات الجغرافيا والتاريخ والحضارة. وقبل ذلك وحدة الاجتماع السياسي الوطني. وعلى الجميع التأمل جيدا في تجربة الحرب الأهلية اللبنانية، وهي ليست منا ببعيد. وهذا خير من الاستغراق في الوهم.

وخلاصة القول في هذا الشأن هي أن من يراهن على تفتيت سوريا، وتمزيق وحدتها الترابية، هو بالضرورة لا يجيد قراءة الواقع، واستيعاب دينامياته، والعوامل المؤثرة في سياقها الكلي الناظم. ولذا لا يُمكنُه أن يكون رابحا، حتى وإن كسب عشر معارك متتالية.

على صعيد البعد الخاص بالميزان الإستراتيجي، من الواضح أننا أمام مشهد أكثر تعقيدا مما قد يبدو لأول وهلة.

بداية، ما جرى تحقيقه مؤخرا من قبل تنظيمات مسلحة في إدلب، ومناطق أخرى، يُمثل مكاسب آنية. وقد يكون ثمن التمسك به باهظا. وهو ربما أتى على حساب مكاسب أخرى سبق أن حققتها هذه التنظيمات. وهذه قاعدة الحرب التي يدركها كافة العسكريين، حيث يتعلمونها في السنوات الأولى لانتسابهم للكليات الحربية.

وعليه، لا يُمكن لأي جهة الاعتداد كثيرا بكسب معركة هنا أو هناك، خاصة وأننا بصدد مسرح عمليات يمتد على مساحة واسعة من الأرض السورية، وتدور فيه مئات المعارك المتزامنة.

وبالعودة إلى مسألة الميزان الإستراتيجي، فإن دراسة ذلك تستوجب، على الصعيد المنهجي، مستويين من التحليل: الأول ذو صلة بالتعادل الحسابي للقدرات. والثاني يرتبط بالإطار الخلفي للقوة، الذي يسمى أيضا مصادر القوة الأولية.

يشير التعادل الحسابي إلى حجم القوات والعتاد لدى الأطراف المختلفة، وطبيعة الانتشار ونوعيته، وعناصر أخرى ذات صلة ببيئة المعركة. وترتبط بالتعادل الحسابي مسألتا توازن القوى والردع، وهما قضيتان منفصلتان كمفهوم، لكنها متلازمتان في حسابات الدفاع.

كذلك، فإن توازن القوى لا يعتبر اصطلاحا رديفا للميزان الإستراتيجي، وعادة ما يجري الخلط بين هذين المصطلحين.

في الحالة السورية، ليس ثمة تعادل حسابي على مستوى القوات أو العتاد. كما تتباين كثيرا درجة التكامل بين الأسلحة لدى كل فريق. وتبدو الكفة مائلة لمصلحة الجيش السوري والتشكيلات العسكرية الرسمية الرديفة له.

وعلى صعيد الإطار الخلفي للقوة، أو مصادر القوة الأولية، تبدو الكفة أيضا مائلة في الاتجاه ذاته. وهذا أمر مفهوم وبديهي، إذا كان الأمر يتعلق بالمقارنة بين السلطة (أو الدولة) والمجموعات المعارضة. أو لنقل تلك التي تصطدم بها عسكريا، كما هو في الحالة السورية.

وعليه، فإن الميزان الإستراتيجي، في سياقه الكلي، مازال لمصلحة الدولة السورية، وذلك بلحاظ كل من التعادل الحسابي ومصادر القوة الأولية. وهذه هي الخلاصة العلمية التي يُمكن للمحللين الإستراتيجيين الخروج بها، بمعزل عن المواقف والخيارات السياسية والأيديولوجية للقوى والأطراف المختلفة.

على صعيد علاقة التطورات الأخيرة في الساحة السورية بتفاعلات المحيط الإقليمي ودوره، يُمكن القول إن هذه التطورات قد أشرت لتعاظم هذا الدور، واتجاه بعض القوى فيه لتعزيز المضمون الأمني للأزمة على حساب مضمونها السياسي، والذهاب به إلى أقصى الحدود التي يُمكن أن تحتملها. وهذه هي سياسة الحافة -كما يجري تعريفها- أو حافة الهاوية. وهي أشبه بمن يقف على صخرة تطل على واد سحيق، دون أن يدرك بأنها قد تهوي به إلى هذا الوادي رغم كل احتياطاته المفترضة. وهذا إن كان أصلا ثمة وجود لهذه الاحتياطات.

هذا الوضع، الذي نحن بصدده، يشير إلى تعاظم الاتجاهات السالبة على مستوى تفاعلات النظام الإقليمي الشرق أوسطي.

والنتيجة هنا تكاد تتماثل مع السبب، بمعنى أن المرء بمقدوره القول إن سوريا تدفع ثمن تدهور تفاعلات هذا النظام وغلبة مضامينها الصراعية. كما يُمكنه أيضا القول بأن الأزمة السورية قد دفعت باتجاه تسخين هذا النظام وتأزيم تفاعلاته البينية.

ويشير وضع الشرق الأوسط الراهن كذلك إلى ارتفاع منسوب التقاطب الدولي في ساحاته. بل إن هذا التقاطب لا نظير له منذ ثلاثين عاما على أقل تقدير.

وإذا كان صحيحا القول إن التقاطب الدولي له تجلياته الإقليمية المختلفة، فإن الصحيح أيضا هو أن الساحة السورية تشهد اليوم قمة هذه التجليات. وقد يكون من الصعب الاستنتاج بأن الأزمة السورية دمرت بيئة النظام الدولي، إلا أنها دفعت، بكل تأكيد، باتجاه رفع منسوب توتراته، وشكلت أحد أسباب الإطاحة بفرص الوئام فيه.

وبعد ذلك كله، ماذا عن فرص التسوية السياسية، وبين من يُمكن أن تكون هذه التسوية؟
لاريب، أن هذه التسوية قدر لا مفر منه بالنسبة لكل السوريين، مهما طال بهم أمد النزاع والصراع. واليوم، ثمة رعاية أممية لمشروع المصالحة الوطنية، ورغبة في إنجازها. ونقصد بذلك تحديدا، مبادرة المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، التي يُمكن الانطلاق منها نحو تسوية أوسع أفقا ونطاقا.

وإذا كانت رغبة الأمم المتحدة ثابتة وأكيدة على هذا الصعيد، ولا جدال فيها، فإن القضية تبقى متأثرة حكما بمقاربة القوى الدولية والإقليمية، وما إذا كانت راغبة حقا في إنجاز تسوية سياسية، بدلا من إدامة الوضع الراهن.

إن سوريا تمر اليوم بمنعطف، قد يكون الأكثر حساسية في تاريخها الحديث. وعلى قوى المجتمع الدولي أن تبادر للدفع باتجاه تسوية سلمية للأزمة، حفاظا على استقرار الشرق الأوسط والأمن الدولي. وعلى هذه القوى أن تدرك بأن بلقنة الشرق خيار لا يُمكن للعالم تحمله، أو التكيف مع تبعاته. وإن من شأن هذا الخيار أن يضع أوروبا خاصة على كف عفريت. ويرمي، في الوقت ذاته، بتداعياته الأمنية والاجتماعية على نطاق دولي أوسع مدى.

عبدالجليل زيد موهون
الجزيرة نت