حتى سنوات قليلة ماضية تصدر شعار خيار حل الدولتين، و”الأرض مقابل السلام” على الأقل من باب المواربة السياسية، السياسة العامة للكيان الإسرائيلي في تعاطيه مع مشروع التسوية، وشدد حزب العمل الذي وقع اتفاق أوسلو خلال سنوات حكمه، على مبدأ “الفصل العضوي” على أرضية كيانين لشعبين للحفاظ على القومية اليهودية ووضع حد للهاجس الديموغرافي الذي يهدد مستقبل الدولة العبرية، غير أن فائض التطرف لدى اليمين الديني والعلماني الأكثر تطرفاً الذي فرض نفسه على مجمل السياسات الإسرائيلية خلال العقد الأخير أفضى إلى شعار “الدولة الواحدة” لقوميتين، في تخلٍ عن السياسة التقليدية بحل الدولتين لشعبين، وقد أسند اليمين الإسرائيلي شعاره الجديد بإجراءات وحقائق على الأرض وحزمة من القوانين في الضفة الغربية والقدس جعلت من شعار الدولة الواحدة هي الحل الوحيد والعملي في المستقبل.
وبغض النظر عن شعار حل الدولتين التاريخي، وعن صفقة القرن وملحقاتها وآخرها ورشة المنامة الاقتصادية فإن حقائق المشروع الاستيطاني العنصري هي التي حددت وما زالت مستقبل الضفة الغربية والقدس ضمن رزمة إجراءات عابرة للأحزاب والحكومات المتعاقبة منذ اليوم الأول للاحتلال في حزيران/ يونيو عام 1967، وهي حقائق ذات صبغة تراكمية انبنى بعضها على بعض ضمن ناظم واستراتيجية لتحقيق غاية في فصلها الأخير وهي السيطرة على الضفة الغربية وفرض حدود وهمية ذات طابع ديموغرافي لحشر الفلسطينيين في أضيق مساحة ممكنة.
وخلال العقود الماضية تعددت الخطط وتزاحمت اللجان الرسمية وغير الرسمية خدمة للمشروع الاستيطاني وسياسة الضم المتدرج، وهي وإن كان أغلبها بجوهر أيديولوجي بإيحاءات توراتية وقوالب دينية، إلا أن بعضها جاء بدوافع أمنية ولتحديات عسكرية لمواجهة أي تهديدات وجودية مستقبلية في ظل بيئة متقلبة يصعب التكهن بمآلاتها.
ولنأخذ مثالاً من ربما أكثر من عشرة مشاريع وهو مشروع ألون الاستيطاني الذي جسد المشروع الاستيطاني ببداياته الأولى في الضفة الغربية، فقد أعلن “إيغال ألون” وزير العدل الإسرائيلي عام 1968 عن خطة الاستيطان في الضفة والقدس للسيطرة على الأماكن الاستراتيجية في الضفة، والاستحواذ على المناطق الجغرافية التي تحتوي على المياه الجوفية والأراضي الزراعية، وبناء قواعد عسكرية في المناطق الحاكمة، وفرض خطوط استيطانية عازلة تضع حداً للديموغرافية الفلسطينية في المستقبل، وقد أولى المخطط أهمية لغور الأردن شرق الضفة والذي يشكل 28% من مساحة الضفة بتشييد خط استيطاني من الشمال إلى الجنوب بموازاة الحدود مع الأردن بطول 115 كم وبعمق 20 كم، ثم تولى حزب الليكود الحكم عام 1977 بعد أن دشن حزب العمل (المعراخ) المشروع الاستيطاني بتشييد 34 مستوطنة، انطلق حزب الليكود الحاكم (بالخطة الرئيسية لتطوير الاستيطان في “يهودا والسامرة”) عام 1978 والتي وضعها متتياهو دروبلس رئيس دائرة الاستيطان في المنظمة الصهيونية بإقامة 70 مستوطنة في 12 تجمعاً استيطانياً حتى عام 1993، وفور تسلم نتنياهو الحكم عام 1996 شرع في تنفيذ برنامج حكومته الاستيطاني على أساس احتفاظ إسرائيل بـ 70% من مساحة الضفة الغربية، وهي المناطق الأمنية غرب الضفة وشرقها في غور الأردن، والمناطق الاستيطانية والعسكرية والبنية التحتية والشوارع الالتفافية الملحقة بها، والمناطق المحيطة بالقدس.
وقد وجدت فكرة الضم تجلياتها بالاستناد إلى حقائق الفعل الاستيطاني في مواقف وتصريحات رسمية لأحزاب وشخصيات في مركز القرار الإسرائيلي وليس على ضفافه، ففي عام 2006 عرض الحنان بورات وأوري تسور الخطة الكبرى لـ”السلام في البلاد”، والتي تتمحور فكرتها حول ضم 60% من مساحة الضفة الغربية، بسكانها الفلسطينيين في القرى والبلدات المتناثرة في الضفة والذين يقدر عددهم بـ 300 ألف فلسطيني، وكان نفتالي بينيت رئيس حزب البيت اليهودي اليميني العضو السابق في حكومة نتنياهو المنصرفة أكثر جسارة في طرح خطة للضم كمشروع يمثل الجناح اليميني الصهيوني المتطرف، فقد دعت خطته “خطة التهدئة” التي نشرها عام 2017 إلى ضم المنطقة المصنفة “سي” حسب اتفاق أوسلو والتي تقدر مساحتها بأكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية، وحسب بينيت فإنها تشمل 400 ألف إسرائيلي و70 ألف عربي.
وانتقل الموقف الداعم لضم أجزاء واسعة من الضفة الغربية من الهامش في السياسة الصهيونية قبل بضع سنوات فقط إلى مركز صناعة القرار، فقد أكد الرئيس الإسرائيلي الحالي رؤوفين ريفلين رفض حل الدولتين بالمطلق، وأنه يفضل أن يكون الفلسطينيون جزءاً من إسرائيل على التقسيم، ويقترح ترتيبات سيادية مشتركة للفلسطينيين والإسرائيليين في الضفة في ظل “الدولة اليهودية”، ولم يفت رئيس الوزراء الإسرائيلي، رمز اليمين المتطرف في إسرائيل، أن يعبر عن رأيه وعما يخطط له في المستقبل في حال استمر على رأس السلطة في إسرائيل، فقد تبرع ديفيد فريدمان سفير الولايات المتحدة في إسرائيل بالتعبير عن موقف نتنياهو بالقول “إن لإسرائيل الحق في ضم أجزاء من الضفة الغربية”، وهو موقف لا يخص نتنياهو فقط بل موقف الإدارة الأميركية وبالتحديد موقف الرئيس ترامب.
خطة الضم بابتلاع الضفة الغربية جاءت كنتيجة منطقية ومتوقعة للحقائق التي فرضها الاحتلال بأدواته الاستيطانية وأذرعه العسكرية ومؤسساته القضائية، منذ احتلال الضفة والقدس حتى يومنا هذا، إذ حتى نهاية عام 2018 وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية والقدس إلى 670 ألف مستوطن، منهم 448 ألف مستوطن في الضفة يتوزعون على 196 مستوطنة و120 بؤرة استيطانية، وهذه المستوطنات أشبه بدولة للمستوطنين في الضفة بفضل التواصل الجغرافي وخطوط الربط البرية، بخلاف المدن والقرى الفلسطينية التي تحولت إلى كنتونات وتجمعات سكانية مقطعة الأوصال تحيط بها المستوطنات والبوابات الحديدية والطرق الالتفافية والثكنات العسكرية من كل جانب، وقد مهد اتفاق أوسلو عام 1993 الذي كان من المفترض أن يؤدي إلى دولة فلسطينية بعد خمس سنوات من توقيعه، للواقع الاستيطاني الحالي بتقسيم الضفة إلى مناطق A ، B ، C بسيطرة فلسطينية كاملة أو جزئية أو بدون سيطرة بالكامل، وهو ما مهد لآلة الاستيطان أن تفرض حقائقها على الأرض في المنطقة المصنفة C والتي تتجاوز مساحتها أكثر من 60% من مساحة الضفة الغربية.
ويأتي الجهاز القضائي الإسرائيلي كإحدى أدوات الاحتلال في فرض الحقائق وشرعنة السلوك الاستيطاني، والعدواني بروحه العنصرية الفاقعة، ليمهد الطريق لفكرة الضم، فقد أقر الكنيست الإسرائيلي في تموز/ يوليو 2018 “قانون القومية” والذي يعرّف الدولة العبرية “بأنها الدولة القومية للشعب اليهودي، وفيها يقوم بممارسة حقه الطبيعي والثقافي والديني والتاريخي لتقرير المصير”، كما يؤكد أن “ممارسة حق تقرير المصير في دولة إسرائيل حصرية للشعب اليهودي”، وينص على أن “حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يقتصر على اليهود، والهجرة التي تؤدي إلى المواطنة المباشرة هي لليهود فقط”، وأن “القدس الكبرى والموحدة عاصمة إسرائيل”، وأن “العبرية هي لغة الدولة الرسمية، واللغة العربية تفقد مكانتها كلغة رسمية”.
وفي شباط/ فبراير 2018 أقرت اللجنة الوزارية للتشريع مشروع قانون يؤدي إلى توسيع نطاق صلاحيات المحاكم المدنية الإسرائيلية على المناطق C في الضفة الغربية، وبعد أيام من ذلك أقر الكنيست بالقراءتين الثانية والثالثة ما سمّي بقانون “جامعة بيت إيل” الذي ينص على تطبيق القانون الإسرائيلي على جميع مؤسسات التعليم العالي المقامة في المستوطنات.
وبالمجمل ومنذ عام 2015 تم تقديم 22 مشروع قانون تؤدي بطريقة أو أخرى إلى فرض السيادة الكلية أو الجزئية على المنطقة C والمستوطنات في الضفة الغربية.
ووفقاً لهذه الحقائق التي لا تخطئها عين فإن مخطط صفقة القرن ومؤتمر المنامة الاقتصادي يأتيان في سياق خدمة المشروع الصهيوني بضم ما تبقى من الضفة الغربية لصالح المخطط الاستيطاني، وسواء أفلحت الإدارة الأميركية في إنجاح مؤتمرها الاقتصادي في المنامة أم لا، فإن مخطط الضم سائر وبخطى متدرجة، ومن المتوقع أن يتم الشروع بالضم أولاً بالمستوطنات والتجمعات الكبرى وملحقاتها، ثم البؤر الاستيطانية المتناثرة، لتنتهي بضم المنطقة C التي تشكل أكثر من 60% بقليل من مساحة الضفة الغربية.
العربي الجديد