لعل الأمر الأكثر جدلاً وترقباً في تركيا، بعد هزيمة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في جولة إعادة الانتخابات البلدية في إسطنبول، هو تشكيل أحزاب جديدة، واللافت في هذا الأمر أن معظم الذين يجري الحديث عن نيتهم تشكيل هذه الأحزاب هم أعضاء بارزون في “العدالة والتنمية”، ما يذكّر ببداية تأسيس هذا الحزب نفسه، إذ عندما قرر رجب أردوغان ورفاقه تشكيله، وهم أعضاء في حزب الفضيلة عام 2001، ذهبوا إلى زعيم الحزب ومؤسس الإسلام السياسي في تركيا، الراحل نجم الدين أربكان، وأبلغوه نيتهم تأسيس حزب جديد، فكان “العدالة والتنمية” الذي طرح نفسه حزباً مجدّداً معتدلاً، يجمع بين كل الأتراك، ويعمل من أجل نهضة تركيا. واليوم يتكرر السيناريو نفسه تقريباً، مع زيارة وزير الاقتصاد السابق، علي باباجان، الرئيس أردوغان، قبل أيام، وإبلاغه نيته تأسيس حزب جديد، فيما يقف الرئيس السابق، عبد الله غول، خلف باباجان في كل حركة واجتماع وخطوة وتصريح، من أجل الحزب الجديد، والذي تقول مصادر تركية إنه أطلق عليه اسم حزب الحرية والقانون.
وبموازاة جهود باباجان، يتحرّك رئيس الوزراء السابق، أحمد داود أوغلو، والذي يعد المنظر الفكري لاستراتيجية حزب العدالة والتنمية، لتأسيس حزب جديد، موجّهاً ومواصلاً انتقاداته اللاذعة لأردوغان، محمّلاً إياه مسؤولية هزيمة “العدالة والتنمية” في انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول، ومسؤولية استمرار التعثر الاقتصادي في البلاد، وانزلاق تركيا إلى حكمٍ يقمع الحريات. وخارج “العدالة والتنمية”، يجري الحديث عن جهود مماثلة لمحرّم إينجه، القيادي في حزب الشعب الجمهوري المعارض، والمرشح السابق لانتخابات رئاسة الجمهورية عام
“إلى جانب بروز نجم أكرم إمام أوغلو بعد فوزه برئاسة بلدية اسطنبول، تبدو تركيا أمام تغيراتٍ سياسيةٍ في مشهدها الداخلي” 2017، لتأسيس حزب جديد.
يؤكد هذا النشاط المحموم لتشكيل أحزاب تركية جديدة أن مرحلة ما بعد انتخابات اسطنبول ستكون جديدة في الحياة السياسية التركية، لعل من أهم ملامحها أفول عهد الأردوغانية السياسية، وبروز دينامية سياسية جديدة، سواء من المعارضة التي بقيت مشتتة وضعيفة الفترة الماضية، أو من أوساط محسوبة على “العدالة والتنمية”، لم تعد ترى في أردوغان الأمل المُرتجى، بعد أن اتجه نحو الفردانية في الحكم، وأوصلت سياساته البلاد إلى مرحلة مليئة بالتحديات الصعبة.
ومع جهود تأسيس أحزاب تركية جديدة، إلى جانب بروز نجم أكرم إمام أوغلو بعد فوزه برئاسة بلدية اسطنبول، تبدو تركيا أمام تغيراتٍ سياسيةٍ في مشهدها الداخلي، ليس على صعيد تأسيس أحزاب جديدة فحسب، وإنما على صعيد طبيعة التحالفات الحزبية والسياسية ومستقبلها، وربما تغير طبيعة النظام السياسي نفسه، لا سيما في ظل ازدياد وتيرة الدعوات المطالبة بالعودة إلى النظام البرلماني، أو على الأقل تعديل النظام الرئاسي الحالي، والذي يعطي للرئيس أردوغان سلطاتٍ شبه مطلقة. وبطبيعة الحال، سيؤثر تأسيس باباجان وأوغلو حزبين جديدين على تركيبة البرلمان التركي، وإذ صحّت التوقعات بأن نحو مائة نائب من “العدالة والتنمية” سيلتحقون بالأحزاب الجديدة، وأنه سيتم بالتالي تشكيل كتل برلمانية جديدة، فإن الحزب سيفقد أغلبيته البرلمانية، وهو ما قد يفتح الطريق أمام الدعوة إلى استفتاء على العودة عن النظام الرئاسي، أو إصلاحاتٍ في الأخير، وربما الدعوة إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكّرة. وفي كل ما سبق، تتجه الأنظار إلى الرئيس أردوغان، وكيفية تعاطيه مع تشكيل أحزاب جديدة من رحم الحزب الذي أوصله إلى مجده السياسي.
سيقول أردوغان وحليفه السياسي في الانتخابات، دولت باهجلي، إن تركيا ليست بحاجة إلى أحزابٍ جديدةٍ، بقدر حاجتها إلى مواصلة طريقها بحزم لتحقيق الأهداف، إلا أن كل المؤشرات والمعطيات والدلائل تفيد بأن تركيا بدأت تشهد بداية سياسية جديدة بعد انتخابات اسطنبول.
خورشيد دلي
العربي الجديد