مصر وتركيا هما أكبر دولتين في شرق البحر المتوسط ؛ بالإضافة إلى إيران، حيث يشكلان ما يقرب من نصف إجمالي سكان الشرق الأوسط برمته. كما تمتلك الدولتان أكبر قوة عسكرية مما يجعلهما أقوى قوتين عسكريتين تقليديتين في الشرق الأوسط. وتعد القاهرة وأنقرة من أهم عواصم صنع القرار في العالم الإسلامي، فالقاهرة تضم مؤسسة الأزهر الشريف، أهم جامعة إسلامية في العالم، والتي تعد أحد أهم أدوات القوة الناعمة المصرية، بينما كانت تركيا موطن أخر خلافة إسلامية، والتي يُنظر إليها بالحنين الخاص في جميع أنحاء المنطقة.
وعلى الرغم من أوجه التشابه بينهما، إلا أن الوقت الحالي يشهد صراعا عميقا بين البلدين في جميع أنحاء المنطقة، وذلك على الرغم من أن أنقرة والقاهرة حاولا باستمرار تجنب العداء المباشر والمواجهة بينهما. وخلال الفوضى العارمة التي اجتاحت الشرق الأوسط، بالتزامن مع موجات الربيع العربي، تصاعدت وتيرة التوتير بين البلدين وأثرت بدورها على الأوضاع في ليبيا، وسوريا، والسودان، وشرق المتوسط. وبالإضافة إلى زيادة احتمال المواجهة المباشرة بين البلدين، فإن الصراع التركي المصري يهدد أيضًا الاستقرار الهش في الشرق الأوسط، مما يوحي بأن هناك حاجة إلى وسيط خارجي لحل هذه القضية الشائكة.
في أعقاب الإطاحة بالرئيس محمد مرسي من الحكم في مصر في حزيران/ يونيو ٢٠١٣، استضافت أنقرة، قيادات جماعة الإخوان ووفرت لهما المأوى والحماية، كما شنت أنقرة حملة إعلامية ضد الحكومة المصرية الجديدة. وردا على ذلك، قامت وزارة الخارجية المصرية في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2013 باستدعاء السفير المصري في أنقرة، وأمهلت السفير التركي في القاهرة 48 ساعة لمغادرة البلاد، وبدأت العلاقات- التي كانت إيجابية نسبيا في عهد مرسى- بالتدهور السريع. ويستند موقف تركيا من جماعة الإخوان المسلمين إلى التقارب الفكري بين حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي إليه الرئيس التركي أردوغان، حيث يُعتبر الحزب الإسلامي التركي، بمثابة النسخة التركية الخاصة لجماعة الإخوان المسلمين. ومن ثم، باتت أنقرة اليوم، بالإضافة إلى الدوحة، يمثلان أكبر بوق دعاية ضد النظام المصري.
ونتيجة للتأثير الإقليمي الذي تتمتع به كلا البلدين، كان للصراع المصري -التركي أثرا كبيرا على النزاعات الأخرى القائمة في الشرق الأوسط أيضًا، ففي ليبيا تخوض البلدان حربا فعلية بالوكالة، حيث تدعم مصر قائد الجيش الليبي المشير خليفة حفتر، ضد حكومة الوفاق بقيادة فايز السراج التي أتهمتها القاهرة بأنها تدعم المليشيات الإسلامية المتطرفة وتوفر لها الدعم السياسي والعسكري.
أدت أيضا الحملة العسكرية التي شنتها قوات حفتر على طرابلس إلى زيادة حدة التوترات بين مصر وتركيا، حيث التقى الرئيس السيسي، بالجنرال حفتر، مرتين في القاهرة على الأقل منذ الإعلان عن تلك الحملة في أوائل أيار/ مايو الجاري. وفى الوقت عينه، أشارت بعض التقارير إلى وصول سفينة تركية محملة بأسلحة وآليات عسكرية إلى ميناء طرابلس في ليبيا الخاضع لسيطرة الميليشيات، قادمة من ميناء سامسون التركي، وذلك في أعقاب إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفضه للعمليات العسكرية التي أطلقها الجيش الوطني الليبي للاستيلاء على العاصمة طرابلس .
كان لدعم تركيا للمليشيات المعارضة في سوريا أيضا اثره على العلاقات بين البلدين ، حيث أعلنت مصر عن دعمها لبشار الأسد،وذلك خلافا حتى للموقف التقليدي لحلفائها الخلجيين السعودية والإمارات، بينما كانت تركيا الحاضن الرئيسي للمقاومة السورية المسلحة، ومع ذلك، وفي أعقاب التقارب الإيراني التركي الروسي، يبدو أن تركيا اكتفت بمناطق نفوذ أمنة لها في سوريا، لمحاربة الأكراد، فحسب، دون تهديد سلطة الأسد، لكن من المؤكد أن القاهرة لن ترضى بأي نفوذ لتركيا في سوريا، حيث نشطت خلال الفترة الأخيرة لحث حفائها الخليجيين على دعم الأسد لمواجهة النفوذ التركي . كما صرح وزير الخارجية المصري بأن مصر لن تفرض أي شروط مسبقة على سوريا للانضمام لجامعة الدول العربية.
ومع الإطاحة بالرئيس السوداني عمر البشير، اتبعت مصر وتركيا مرة أخرى استراتيجيات متضاربة. ويُذكر أن الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير قد وقّع اتفاقا مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في عام ٢٠١٧ يقضي بإعادة تأهيل واستغلال أنقرة لجزيرة سواكن الاستراتيجية السودانية، المطلة على البحر الأحمر، والتي تعد أقرب الموانئ إلى ميناء جدة السعودي على البحر الأحمر، والمتاخم للمياه الإقليمية المصرية في البحر الأحمر. ومن ثم، اعتبرت وسائل الإعلام المصرية هذا الاتفاق على انه موجه ضد مصر في الأساس، نظرا لاقتراب الجزيرة من الحدود الجنوبية لمصر، والتشكك في رغبات أردوغان بدعم الجماعات الإرهابية في أنشطتها العدائية ضد مصر. وبذلك يصبح لتركيا وجود على البحر الأحمر، الممر الرئيسي الحيوي المؤدي لقناة السويس المصرية. وحاليا مازال الغموض يسيطر على مستقبل الاتفاق في أعقاب الإطاحة بالبشير، حيث تحاول كل من تركيا ومصر استخدام كل نفوذهما لضمان استمرار أو إلغاء الاتفاق، إلا أن أغلب الظن أن الأمر سيترك حسمه للرئيس السوداني المقبل.
وفى شرق البحر المتوسط، استضافت القاهرة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014 قمة ثلاثية مصرية قبرصية يونانية، وتجاهلت دعوة تركيا، لترسيم الحدود البحرية شرق المتوسط، وبحث الاستغلال الأمثل لإمكانيات الغاز الطبيعي الواعدة قبالة سواحل قبرص إلى مصر، لكن الهدف الأخر للقاهرة هو تهميش وإضعاف الموقف التركي الذي لا يعترف بأن لقبرص منطقة اقتصادية حصرية تتجاوز اثني عشر ميلاً، وتطالب تركيا بأن تكون المنطقة الاقتصادية الخاصة بها في المياه العميقة شرق المتوسط، جنوبا إلى حد تلامس المياه الإقليمية المصرية. ولا تعترف تركيا باتفاقية ٢٠١٣ ترسيم الحدود البحرية التي أبرمتها مصر مع قبرص، وهو ما أدى إلى احتدام الصراع والمنافسة في شرق البحر المتوسط.
وردا على ذلك، لجأت تركيا إلى إجراءات أحادية الجانب، حيث أعلنت عن حملة كبيرة للتنقيب عن الغاز قبالة الشواطئ القبرصية في سبتمبر المقبل. وعلى الرغم من إصدار الخارجية المصرية بيانا شديد اللهجة في الرابع من مايو الماضي ردا على الإجراءات التركية حيث حذرت تركيا من اتخاذ أي إجراء أحادي الجانب فيما يتعلق بأنشطة تنقيب وحفر غرب قبرص، .بينما حذر أردوغان شركات الغاز من التنقيب قبالة الشواطئ القبرصية، وأكدت وزارة الخارجية التركية، أن أعمال الحفر تستند إلى “حقوق مشروعة”.
أن تصاعد نبرة العداء بين أقوى دولتين في الشرق الأوسط، ينذر باتساع وتيرة الاضطرابات في تلك المنطقة المضطربة في الأصل، مما يعرض مصالح الولايات المتحدة للخطر، فتركيا ومصر حليفتان تقليديتان لواشنطن منذ زمن طويل، ومع ذلك، قد يدفع النزاع القائم بتركيا إلى التقارب مع إيران وروسيا حتى في الوقت الذي تسعى فيه روسيا بنشاط إلى توثيق العلاقات مع مصر. وفضلا عن هذا وذاك، إذا كانت واشنطن تتطلع إلى تفويت الفرصة على كل من إيران وروسيا لتقوية نفوذهما في المنطقة، فيجب عليها التوسط بين الطرفين أو على الأقل تعمل على تقريب وجهات النظر بينهما، وهو ما قد يحد من خطورة احتمالات تصاعد المواجهة بين الطرفين.
وفى هذا الصدد، يمكن أن لعب واشنطن دورا رئيسيا في إقناع أردوغان بتسوية قضية S-400 في سياق مفاوضات شاملة مع الولايات المتحدة، كما يمكن لواشنطن طرح عدد من المبادرات لحل القضايا المتعلقة بغاز شرق المتوسط، لان هذا من الممكن أن يؤدي إلى القضاء على سبب مستقبلي للتوتر بين البلدين.
وفضلا عن هذا، يمكن أن تساعد الوساطة الأمريكية بين أنقرة والقاهرة على تهيئة الأجواء للتصدي للخطر الإيراني، فتركيا التي تشهد تقاربا مع إيران وروسيا، تعد أحد أهم الأسباب التي تعوق مشاركة مصر الفعالة في الحملة الدولية ضد إيران، فمصر لا ترغب في أن تصطف بشكل حصري إلى جانب تركيا . وكان انسحاب مصر الهادئ من تحالف الدفاع لمواجهة إيران، والمعروف باسم الناتو العربي، أحد النتائج الغير مباشرة للخلاف المصري التركي. ومن ثم، يجب أن يُفهم انسحاب مصر من التحالف الاستراتيجي للشرق الأوسط، أو استراتيجية “الناتو العربية” التي يفضله ويدعمه الرئيس ترامب، على انه محصلة غير مباشرة للنزاع المصري التركي، وإدراك مصر بضرورة موازنة التقارب التركي الإيراني المحتمل. ونظراً لأن الولايات المتحدة حاولت مؤخرًا تجنب الانخراط في المواجهات العسكرية الكبرى في الشرق الأوسط، فلا ينبغي عليها التخلي عن اقتناص الفرصة والتوسط لتخفيف حدة الصراع الدائر بين بين مصر وتركيا.
ومع ذلك، ستبقى مشكلة دعم تركيا لجماعة الإخوان المسلمين، ومن المؤكد أنها ستكون أكثر القضايا تعقيدا، ولن يتسنى حلها من خلال الوساطة، فمصر ترى أن حزب أردوغان وجماعة الإخوان وجهان لعملة واحدة، كما أن الرئيس التركي لا يريد نجاح نموذج السيسي الانقلابي في تركيا، خاصة بعد الانقلاب الفاشل الذي حدث في تركيا في عام 2016. ومن المرجح أن يؤدي إعلان الرئيس ترامب مؤخرًا عن تأييده لإدراج جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، إلى جانب النقاش الأخير في الكونغرس حول هذه المسألة، إلى ممارسة المزيد من الضغوط على تركيا. ومن ثم علينا الانتظار لنرى ما ستسفر عنه تلك الضغوط.
معهد واشنطن