بدأت إيران بخرق بعض القيود المفروضة على برنامجها النووي بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة» التي وقّعت عليها في عام 2015 والتي انسحبت منها الولايات المتحدة في عام 2018.
في البداية، تجاوزت إيران مخزون اليورانيوم منخفض التخصيب التي سُمح لها بالاحتفاظ به، ثم أخذت تخصّب اليورانيوم بما يتعدّى نسبة الـ 3,6 في المائة التي أجازها الاتفاق. وفي حين لا يزال معدل التخصيب دون الـ 5 في المائة بهامشٍ بسيط – وهو أقل بكثير من مستوى التخصيب لإنتاج سلاح نووي الذي يتراوح بين 80 و 90 في المائة – إلّا أن الإيرانيين لم يعد يحترمون القيود. وهم يهددون بالقيام بالمزيد إذا لم تتحرك الدول الأوروبية للتخفيف من التأثير الاقتصادي للعقوبات الأمريكية المفروضة من جديد على إيران.
هناك عدد من الأسئلة التي يجب طرحها: لماذا أقدمت إيران على هذه الخطوة في هذا الوقت، بعد أن التزمت بقيود الاتفاق على مدى عامٍ كامل في أعقاب انسحاب الرئيس ترامب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» واستئناف العقوبات الأمريكية الصارمة من جانب واحد؟ ثانياً، ما هي التداعيات العملية الناجمة عن الخطوات التدريجية التي تتخذها إيران للتحرر من القيود؟ ثالثاً، هل تملك إدارة ترامب ردّاً على الخطوات الإيرانية؟ رابعاً، ما هي الخيارات المنطقية للرد على الإيرانيين؟
لماذا أقدمت إيران على هذه الخطوة في هذا الوقت؟ في الرابع من أيار/مايو، أنهت إدارة ترامب الإعفاءات التي كانت تجيز لثماني دول شراء النفط الإيراني، وبذلك فرضت تكلفة أعلى بشكل كبير على الاقتصاد الإيراني. وعلى الرغم من أن العقوبات قد أدّت إلى تدهور قسري كبير في الاقتصاد الإيراني، إلّا أن إنهاء الإعفاءات يعني أن صادرات النفط الإيرانية التي كانت تبلغ نحو مليون برميل يومياً ستنخفض إلى ما يصل إلى 300 ألف برميل يومياً. وضاعفت خسارة الإيرادات بشكل كبير المشاكل الاقتصادية لإيران، التي شهدت بالفعل انخفاض قيمة عملتها بنسبة 60 في المائة وندرة السلع الاستهلاكية المصحوبة بارتفاع التضخم.
وجاء قرار فسخ الإعفاءات ليغيّر الحسابات الإيرانية، من محاولة الصمود لوقت أطول من ترامب إلى السعي للرد على حملة “الضغط الأقصى” التي يمارسها الرئيس الأمريكي بحملةٍ خاصة بإيران، من خلال تخريب ناقلات النفط، وقيام المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن باستخدام الطائرات بدون طيار والصواريخ الإيرانية المصدر لضرب المطارات المدنية والمنشآت النفطية في السعودية، وقيام الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق بقصف القواعد التي تتواجد فيها القوات الأمريكية بالصواريخ واستهدافها أيضاً منشأة نفطية في البصرة تستخدمها شركة “إيكسون”، ناهيك عن إسقاط طائرة أمريكية بدون طيار.
وبالترافق مع هذه الأعمال المهدِّدة في المنطقة، بدأ الإيرانيون أيضاً بالتخلي عن بعض التزاماتهم بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة». وهدفهم من ذلك هو الضغط على الأوروبيين إما لتقديم تعويضٍ اقتصادي عن العقوبات الأمريكية أو الضغط على إدارة ترامب من أجل تخفيف سياسة العقوبات التي تتبعها. فالإيرانيون يدركون أن الأوروبيين يخشون من أنهم إذا لم يَحولوا دون انسحاب إيران الكلي من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، فسيزيد خطر إقدام الولايات المتحدة أو إسرائيل على ضرب المنشآت النووية الإيرانية – والأوروبيون يريدون تفادي نشوب أي صراع.
ولكن الإيرانيين لا يحاولون التأثير على الأوروبيين وحدهم، بل إنهم يتحدّون مباشرةً إدارة ترامب: حين رأوا أن الرئيس الأمريكي يريد الخروج من “دوامة الحروب التي لا تنتهي في الشرق الأوسط”، ظنّوا على ما يبدو أن رفع مستوى الضغط قد يحمله على التراجع.
ما هي التداعيات العملية الناجمة عن انسحاب إيران التدريجي من «خطة العمل الشاملة المشتركة»؟ في الحالة الأولى، سيقوم الإيرانيون بتقليص الوقت الذي سيستغرقهم لتجاوز مستوى التخصيب لإنتاج المواد الانشطارية الصالحة لتصنيع الأسلحة.
ومن الجدير بالذكر أن قبل [التوقيع على] «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ونظراً لعدد أجهزة الطرد المركزي العاملة ومخزون اليورانيوم منخفض التخصيب الذي فاق الـ 10،000 كيلوغرام، كان يفصل الإيرانيين، وفقاً للتقديرات، ما بين شهرين وثلاثة أشهر عن الوصول إلى إمكانية تجاوز العتبة النووية لصنع سلاح نووي. ومن خلال خفض مخزونهم إلى أقل من 300 كيلوغرام وكذلك عدد أجهزة الطرد المركزي العاملة لديهم بنسبة تقارب الـ 50 في المائة، أصبح الوقت اللازم لتجاوز الإيرانيين العتبة النووية عاماً واحداً تقريباً.
وسوف يستغرق الإيرانيون وقتاً للعودة إلى حيثما كانوا – ولكن الخطوات التي يتخذونها ستقلّص تدريجياً المدة اللازمة لتجاوز العتبة النووية. وبالطبع تتأثر هذه المدة بمستوى التخصيب الذي يصل إليه الإيرانيون، فإذا بدأوا بالتخصيب إلى ما يصل إلى 20 في المائة – وهذا أمر يلمّحون إليه، بهدف توفير الوقود اللازم لمفاعل الأبحاث الطبية في طهران – فمن شأن ذلك أن يسرّع الجدول الزمني.
ومع ذلك، فإن تجاوز العتبة النووية لا يعني امتلاك القدرة على صنع الأسلحة. فتجاوز العتبة قد يوفّر يورانيوم مخصّب من العيار المناسب لصنع الاسلحة، ولكنه لا يوفّر السلاح بحد ذاته.
لقد كشفت الكمية الهائلة من الوثائق والبيانات الرقمية التي أخرجها “الموساد” الإسرائيلي خفيةً من طهران أن الإيرانيين نفذوا أعمالاً كثيرة فيما يخص تصميم الأسلحة، بما فيها الاختبار والمحاكاة. ومع ذلك، لا أحد يعلم بالتحديد المدة التي سيستغرقها صنع قنبلة [نووية] من قبل الإيرانيين. وكانت بعض التقديرات تشير لفترة طويلة إلى أن الأمر قد يستغرق من الإيرانيين حوالي عام لصنع سلاح من اليورانيوم عالي التخصيب. ولكن هذه مجرد تخمينات وليست قائمة على معرفة فعلية – فقد تكون هذه المدة أطول، أو أقصر بكثير.
هل تملك إدارة ترامب ردّاً على التدابير المضادة التي تواجه بها إيران “حملة الضغط الأقصى”؟ بصرف النظر عن مضاعفة الضغوط الاقتصادية، يبدو أن الإجابة على هذا السؤال سلبية. وبدلاً من ذلك، يبدو أن هناك أملاً في أن يتنازل الإيرانيون عاجلاً أم آجلاً.
وبالفعل، على الرغم من تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون في 5 أيار/مايو – بأن أي تهديدات ضد قواتنا ومصالحنا وأصدقائنا في المنطقة ستُجابه بـ “قوة لا ترحم” – إلّا أنّ جميع الهجمات وأعمال التخريب التي يمكن إنكارها والتي نفذها الإيرانيون أو وكلاؤهم لم تستحث أي ردود مباشرة. ومن جانبه، يلمّح الرئيس ترامب إلى أنه يريد التفاوض وخفّف مما يسعى إلى [تحقيقه]، حتى عندما يقول إن الإيرانيين يلعبون بالنار؛ أما الإيرانيين فيبدو أنهم غير متأثرين في هذه المرحلة ولم يتراجعوا عن موقفهم.
ما هي خيارات الرد المتاحة أمام إدارة ترامب؟ تستطيع إدارة ترامب أن توضّح لإيران، من خلال الأوروبيين والروس، بأنها تخاطر فعلاً بإثارة ردّ عسكري إذا ما بدأت بتقليص المدة اللازمة لتجاوز العتبة النووية.
لكن الاكتفاء بتمرير الرسائل لن يكون بنفس فعالية إجماع الأوروبيين والروس والصينيين على استئناف العقوبات إذا لم يعد الإيرانيون إلى امتثالهم السابق. بيد أن المشكلة في هذه المرحلة تكمن في أنهم يحمّلون بشكل جماعي إدارة ترامب مسؤولية التسبب بوجود الخطر. ولا يُحتمل أن يمارسوا ضغوطاً حقيقية على إيران إلا إذا اعتقدوا أن الإدارة الأمريكية مستعدة للتحرك عسكرياً ضد البنية التحتية العسكرية الإيرانية.
تجدر الإشارة إلى أن الاتحاد الأوروبي عمل على مقاطعة النفط الإيراني في عام 2012 عندما كان يخشى من احتمال تحرك إسرائيل عسكرياً ضد إيران ما لم تكن إسرائيل قد رأت تعرُّض الجمهورية الإسلامية لضغط حقيقي – من النوع الذي يعتبره الإسرائيليون قادراً على تغيير السلوك الإيراني.
لقد كان الخوف من اندلاع الحرب هو العامل الذي دفع الأوروبيين إلى التحرك في ذلك الوقت. وأظن أن الأمر سيانٌ اليوم.
معهد واشنطن