كان وقتها في بدايات الخمسينيات من عمره، متحدثاً لبقاً، حججه جاهزة ومقنعة، ثاقباً في حضوره آسراً للجالسين.
هو الباجي قايد السبسي عام 1980 والاجتماع بمقر جريدة «الرأي» الأسبوعية بحضور ثلة من رفاقه الذين كانوا في الحزب الحاكم الذي غادروه قبل بضع سنوات بسبب الخلاف مع زعيمه الحبيب بورقيبة حول الديمقراطية داخل الحزب. كان هناك المرحوم حسيب بن عمار، مدير الصحيفة ووزير الدفاع، الذي لم يغفر له بورقيبة أنه استقال وأعطى الخبر لوكالة الأنباء الفرنسية حتى يقطع الطريق على «المجاهد الأكبر» الذي كان سيقول إنه هو من أقاله، والمرحوم الحبيب بولعراس الذي كان من أبرز صحافيي وكتاب ذلك الحزب، الذي عمل مع عهد الرئيس بن علي وزيراً للخارجية إبان اجتياح العراق للكويت عام 1990 قبل أن ينتقل فيما بعد لوزارة الدفاع. كان هناك كذلك على ما أذكر الراحل أحمد شطورو المحامي والحقوقي الذي شغل وزارة الشباب والرياضة لسنتين مطلع السبعينيات، وكذلك أحمد الكرفاعي رئيس تحرير الصحيفة الذي لن أنسى له جميله أبداً في الأخذ بيدي في خطواتي الأولى في عالم الصحافة المكتوبة.
كنت لا أزال طالباً في معهد الصحافة ومتعاوناً مع هذه الصحيفة التي كانت حديث الجميع وقتها؛ لأنها الوحيدة المعارضة التي فتحت أعمدتها لكل التيارات السياسية من إسلاميين ويساريين وقوميين وبعثيين في زمن الانغلاق والصوت الواحد.
كان هذا الاجتماع لمجموعة شخصيات استقالت من الحزب الحاكم وأسست جريدة «الرأي» في كانون الثاني/يناير 1978، لكنها اختلفت مع رفاقهم الذين استقالوا معهم، على رأسهم أحمد المستيري، الشخصية الوطنية البارزة وزعيم المعارضة لسنوات ضد بورقيبة. وجه الخلاف بين المجموعتين أن مجموعة الباجي قايد السبسي وبن عمار وبولعراس وشطورو وآخرين، كانت مستعدة للتعاون مع سياسة الانفتاح التي أعلنها الراحل محمد المزالي رئيس الوزراء، فيما رفضت ذلك مجموعة المستيري ومصطفى بن جعفر ومحمد مواعدة، وآخرين.
لم يستطع قايد السبسي أن يكبح جماح ابنه حافظ، محل الاجماع بأنه لا يصلح لا للسياسة وللبلاد، وبدا غير قادر على الحد من تأثير العائلة واللوبيات المحيطة بها التي تريد منه أن يضمن استمرارها واستقواءها
دافع قايد السبسي بشراسة وقتها عن ضرورة التعاون مع مزالي ودعم توجهه نحو المصالحة والقبول بالاختلاف. لم تمض أشهر قليلة على ذلك الاجتماع حتى عين الباجي قايد السبسي وزيراً للخارجية في أبريل- نيسان 1981 وظل في ذلك المنصب إلى غاية 1986. وخلال سنوات ترؤسه للدبلوماسية التونسية، كان ذلك الوزير المفوّه وصاحب العلاقات الودودة مع الصحافيين التونسيين والمراسلين الأجانب، الذين ما كان ليرد طلبات مقابلته، وكنت من بينهم.
تعاون مع بن علي الذي أطاح ببورقيبة في تشرين الثاني/نوفمبر 1987 فترأس البرلمان لفترة قصيرة مطلع التسعينيات، ثم اختفى عن الأنظار فلم يسمع له أي نشاط أو موقف بالمرة، بما في ذلك ما يتعلق بظروف إقامة زعيمه بورقيبة التي كانت أشبه ما يكون بالإقامة الجبرية أو ظروف جنازته المُهينة عام 2000. بدا الرجل طوال عهد بن علي في حكم من طلّق السياسة بالثلاث، مكتفياً بإدارة مكتب محاماته، خاصة مع تقدمه في العمر… إلى أن خرج الرجل على الناس بعد «غيبته» الطويلة.
كانت عودته إلى الحياة السياسية في مثل سنه بعد الثورة التونسية عام 2011 أشبه بالمعجزة. اختير رئيساً للحكومة، فاستطاع أن يدخل على الرأي العام كثيراً من الطمأنينة في فترة ضبابية وتشوش. وجد الناس فيه بعض «رائحة» بورقيبة الذي اشتاقوا إلى حكمته. اجتازت تونس بسلام مع هذا العائد فترة شديدة الصعوبة، وكان الاعتقاد أن الرجل أوصل تونس إلى بر الأمان وسيعود إلى بيته، لكن سحر السلطة وغواية السياسة عادتا لتسكن الرجل من جديد، فلاذ به كل من توجس خيفة من الإسلاميين الذين أفزع دخولهم القوي، والمتعجرف أحياناً، شرائح واسعة من التونسيين.
عاد الرجل إذاً، وانتخب رئيساً للبلاد في 2014. لم يلتفت الناس كثيراً لعمره وركنوا إلى خيار الرصانة والاستقرار الذي جُبلوا عليه لعقود. ومرة أخرى، نجح الرجل في طمأنة التونسيين وإعطاء الأولوية للمصالحة الوطنية وتجنيب البلاد ويلات الانقلاب على الشرعية وما أفرزته صناديق الاقتراع الذي كانت تدفع في اتجاهه بعض القوى التونسية، منها من كان عن حسن نية ومنها من كان يعمل بتنسيق ودعم سخي من قوى الثورة المضادة العربية المعروفة.
مشكلة الباجي قايد السبسي الحالية أن الرجل الذي ساعدته الظروف أن يلج باب المسؤوليات السياسية الكبرى عائداً، لا يعرف الآن كيف يخرج منه بسمعة غير مخدوشة. تعاطف الناس معه في وعكته الصحية الأخيرة وتمنوا له الشفاء وحمدوا الله على اجتياز تونس لتلك الهزة التي اقترنت بعمليات إرهابية، لكنه الآن يبدو كمن يريد إدخال البلاد في إشكالات عديدة وهو يهم بالمغادرة. لم يتعامل مع القانون الانتخابي الجديد كما يفترض ذلك الدستور ولم يستطع أن يكبح جماح ابنه حافظ، محل الاجماع بأنه لا يصلح لا للسياسة وللبلاد، وبدا غير قادر على الحد من تأثير العائلة واللوبيات المحيطة بها التي تريد منه أن يضمن استمرارها واستقواءها. كل ذلك مبعث قلق في ظرفٍ البلاد فيه أشد ما تكون إلى مناخ سليم ونقي.
حالف الحظ الباجي قايد السبسي وهو يعود إلى السياسة والمناصب، ويخشى أن يخذله الحظ وحسن التدبير في أن يؤمّن خروجاً من الباب الكبير. لا أحد يتمنى له ذلك، لكن القرار يظل بيده في النهاية، أو هكذا نأمل.
القدس العربي