باحتجازها ناقلة النفط البريطانية، قبل أيام، بحجة خرقها القوانين وخروجها عن مسارها في مضيق هرمز، ربما تكون إيران قد شرعت في تنفيذ تهديدها بإغلاق هذا المضيق، ولكن ليس بالشكل الخشن الذي كان متوقعاً. وقد تكون هذه الواقعة بداية تنفيذ إيران تهديدها بإغلاق المضيق، إذا أجبرت على إيقاف تصدير نفطها، وهو التهديد الذي تكرّره إيران، كلما شهدت علاقاتها بالولايات المتحدة وحلفائها من دول الجوار العربي توتراً. كما أنها تكرّر تهديدها كلما هدَّدت أميركا أو إسرائيل بضربها، وهو ما جعل هذا المضيق مرآةً تعكس حال العلاقات الدولية وسياسات الدول العظمى في المنطقة.
وعلى الرغم من أن دافع إيران المباشر لحجز الناقلة، ليس توجيه رسالةٍ لمن يهمّه الأمر بأنها بدأت تنفيذ تهديدها بإغلاق مضيق هرمز الذي يُعدُّ باباً لدخول مياه الخليج العربي، بل كان ردّاً على احتجاز السلطات البريطانية ناقلة نفط إيرانية في مضيق جبل طارق، في 4 يوليو/ تموز الجاري، قالت إن وجهتها سورية، إلا أن الجميع أرجع سبب الاحتجاز إلى التهديدات. ولم تكن هذه المرة الأولى التي هدّدت فيها إيران بإغلاق المضيق، ولكن واقع الحال هذه المرة اختلف عن السابق، حين كانت تهدد بإغلاقه رداً على العقوبات التي كانت تفرضها عليها الدول الغربية بين حين وآخر، أو على التهديدات بضرب مفاعلاتها النووية، أو حتى غزو أراضيها، والتي كانت تصل إليها من الولايات المتحدة وإسرائيل وغيرهما، فالرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يبدو جادّاً هذه المرة بخنق إيران اقتصادياً، عبر خطته تصفير تصدير نفطها، وهو أمر ستواجهه إيران للمرة الأولى، وسيعني شل اقتصادها، عندئذ ربما يصير خيار “شمشموم” الوحيد في متناولها.
لم تنفِّذ إيران أيا من التهديدات التي أطلقتها بإغلاق المضيق، منذ انتصار الثورة الإيرانية سنة
“لم تنفِّذ إيران أياً من التهديدات التي أطلقتها بإغلاق مضيق هرمز منذ انتصار الثورة الإيرانية” 1979، لكنها حاولت فعل ذلك خلال الحرب العراقية الإيرانية، في ثمانينيات القرن الماضي، حين شهدت المنطقة ما سميت “حرب الناقلات” بين العراق وإيران، وكان كل طرفٍ يهدف منها إلى حرمان الطرف الآخر من موارد بيع نفطه لإضعافه في المعركة. وعادت إيران إلى التهديد بإغلاقه، سنة 2005، بعد تسرّب أنباء عن إمكانية توجيه إسرائيل ضربة لإيران على خلفية التصعيد الكلامي الإيراني ضدها، ويقصد به تشديد القيادة الإيرانية الدائم على إنكار المحرقة بحق اليهود خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي سنة 2008، قال رئيس الحرس الثوري الإيراني إن بلاده ستقيِّد حركة المرور في المضيق، إذا تعرضت لهجوم أميركي. وجاء كلامه يومها، في ظل أجواءٍ تسرَّب خلالها إعلان السفيرة الإسرائيلية في واشنطن، أمام وزيرة الخارجية الأميركية حينها، كوندوليزا رايس، أنه “لم يبقَ سوى وقت قليل لمنع إيران من امتلاك السلاح النووي”. وأعقب هذا التصريح جولة للرئيس الأميركي الأسبق، جورج بوش، شملت دولا أوروبية، بحث فيها موضوع مواجهة البرنامج النووي الإيراني، وسادت خلالها أجواء تشبه الأجواء التي سادت في المنطقة في أثناء التحضير لغزو العراق، سنة 2003.
بعد التوقيع على الاتفاق النووي بين المجموعة الدولية وإيران، في يوليو/ تموز 2015، ساد الهدوء منطقة الخليج، واختفت لغة التهديد، وبقي مضيق هرمز يتمتع بالأهمية التي تمتع بها عبر العصور، حيث استمرَّ شرياناً للحركة التجارية ولإمدادات الطاقة بالنسبة لدول المنطقة، ودول أخرى. وإذ يمر عبره 90% من صادرات دول الخليج العربي النفطية، وما يقارب 30% من حاجات العالم النفطية سنوياً، تستمر أهمية هذا المضيق، وستبقى كذلك بسبب مرور معظم تجارة سلع دول الخليج الغنية، السلع غير النفطية التي مصدرها الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى.
وفي واحدة من تصريحاتٍ تظهر تناقضاته، قال الرئيس الأميركي، ترامب، إن بلاده لم تعد بحاجة للوجود العسكري الكثيف في منطقة الخليج العربي لحماية تدفق النفط إلى أسواقها، لأنها وصلت إلى مرحلة الكفاية، إذ صار إنتاجها يلبي حاجات استهلاكها منه، غير أن الوقائع تظهر عكس ذلك، حين أعلن أن بلاده سترسل خمسمئة جندي إلى السعودية، لضمان حرية الملاحة في الخليج. لا بد أن ترامب وإدارته كانا يعرفان مسبقاً أن سياستهما الخاصة بزيادة فرض العقوبات على إيران، والوصول إلى مرحلة تصفير تصدير نفطها، سيدفع بردود فعلها إلى مرحلة التطرّف الذي سينتج عنه توتر أمني؛ إن بدأ عبر منع الزوارق الحربية الإيرانية دخول ناقلات النفط أو خروجها عبر مضيق هرمز، قد لا ينتهي سوى بحربٍ تشمل المنطقة كلها.
ولا يمكن القول إن ترامب لم يضع هذه الاحتمالات أمامه، حين قررت إدارته، في إبريل/ نيسان الماضي، إنهاء الإعفاءات الممنوحة لعددٍ من الدول، لتمكينها من الاستمرار بشراء النفط الإيراني. ومع ذلك، استمر في نهجه هذا مدركاً أن عواقب هذا القرار ستزيد التوتر، لأن عينه كانت حينها على زيادة مبيعات بلاده من السلاح لدول المنطقة. وإذا أخذنا بالاعتبار أن الخمسمئة جندي أميركي قد وصلوا بالفعل إلى الأراضي السعودية، فإن قرار إرسالهم لا بد أنه صدر قبل التوتر الحالي بوقت، ما يجعلنا نستنتج أن الإدارة الأميركية سلَّمت بحتمية حصول توتر في المنطقة نتيجة قرارها، ولذلك قرّرت إرسالهم وإرسال معدات دفاع جوي إلى قاعدة الأمير سلطان، جنوب العاصمة السعودية.
وعلى الرغم من حقيقة تراجع موارد النفط الأميركية من دول الخليج، إلا أن المضيق ما زال
“الإدارة الأميركية سلَّمت بحتمية حصول توتر في المنطقة نتيجة قرارها” يحتل أهمية كبيرة بالنسبة لواشنطن، كما المنطقة برمتها. فهي تحتفظ بقواعد عسكرية في دول في الخليج، وتريد استمرار عمله الطبيعي، لضمان حسن مرور بوارجها وسفنها الحربية عبره لتخديم هذه القواعد لوجستياً. كما أن السلع الأميركية، العسكرية والمدنية، التي تستوردها الدول الخليجية تمر عبره، وإغلاقه يعني خسائر للصانعين الأميركيين. إضافة إلى ذلك، تعوِّل الولايات المتحدة على تزويد بعض دول الخليج بمعداتٍ لإقامة مشاريع الطاقة النووية، لمواجهة النووي الإيراني. كما أن مرور القطع الحربية الأميركية عبره ضمان لواشنطن لاستمرار ضغطها على إيران، لوقف برنامجيها، النووي والصاروخي.
سيبقى مضيق هرمز يتمتع بالأهمية التي تمتع بها عقودا وقرونا خلت، بسبب أهميته لدول المنطقة والعالم. وكما كان مقياساً لحال العلاقات والسياسات الدولية، سيبقى كذلك، وسيبقى مقياساً للتوتر أو الهدوء في المنطقة. ولكن يصعب التكهن إلى متى سيبقى عرضةً للتهديدات بإغلاقه، فلا يمكن، والحال هذه، أن تبقيه إيران سالكاً تمر به كل صادرات المنطقة النفطية، بينما تُمنع هي من استخدامه بسبب منعها تصدير نفطها. وفي هذه الحال، لا يمكن للولايات المتحدة ودول المنطقة أن تُفاجأ بكلام قائد البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني، في إبريل/ نيسان الماضي، عن أن بلاده ستغلقه إن مُنعت من استخدامه.
مالك ونوس
العربي الجديد