لا يخفي النظام الإيراني قلقه من تداعيات الإجراء البريطاني، بناء على طلب أميركي، الذي أدى إلى توقيف ناقلة النفط الإيرانية “غريس 1” في مضيق جبل طارق، وأن السكوت على هذا الإجراء يعني خضوع إيران للعقوبات الأميركية الهادفة في جزء منها إلى تصفير تصدير النفط الإيراني، وإن موافقة لندن على هذه العملية يعني بشكل غير مباشر انضمام الحكومة البريطانية إلى هذه العقوبات وبالتالي خروجها من كل الجهود الأوروبية التي تبذلها الترويكا (فرنسا وألمانيا وبريطانيا) نيابة عن الاتحاد الأوروبي من أجل الحفاظ على الاتفاق النووي واستمرار طهران بالالتزام به.
تراجع الثقة
وبناءً على هذه المخاوف يمكن فهم المواقف التي أطلقها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف من نيويورك، والتي تحدث فيها عن تراجع منسوب الثقة الإيرانية بالدور الأوروبي وموقفه من الأزمة القائمة بين طهران وواشنطن على خلفية العقوبات الاقتصادية والانسحاب من الاتفاق النووي، مشيراً إلى أن “الغرب خسر صدقيته داخل إيران والشعب لا يهتم بالتعامل والتعاون مع المجتمع الدولي ومع أميركا بسبب عدم التزامها تعهداتها ومع أوروبا لأنها لم تلتزم ما قالت”.
لكن الأخطر في ما قاله ظريف في اللقاء الذي أجراه مع راديو أميركا الوطني(NPR) “أنا بدأت أخسر صدقيتي”، في إشارة واضحة من رأس الدبلوماسية الإيرانية إلى وجود اختلافات عميقة داخل تركيبة النظام حول اعتماد سياسة واحدة وواضحة تجاه المساعي التي تبذلها حكومة الرئيس حسن روحاني من أجل تخفيف التوتر مع واشنطن والمجتمع الدولي والتوصل إلى حلول وسطية تسمح بفتح كوة في جدار الموقف الأميركي المتشدد في العقوبات والحصار الاقتصادي الخانق، خصوصاً أن زيارة ظريف إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك ترافقت مع سلسلة من المقترحات التي قدمها للإدارة الأميركية بهدف فتح قناة للحوار مقابل موافقتها على إلغاء العقوبات والعودة إلى طاولة المفاوضات.
رسائل واضحة
ظريف وخلال وجوده في نيويورك، بعث برسائل واضحة إلى البيت الأبيض وإدارة الرئيس دونالد ترمب، كان أولها استعداد إيران لفتح طريق التعاون التجاري والاقتصادي المباشر بين إيران وأميركا، وأن الاقتصاد الإيراني يحمل الكثير من الفرص الاقتصادية التي يمكن أميركا الاستثمار فيها.
والرسالة الثانية التي قدمها ظريف تتعلق باستعداد حكومة روحاني للتسريع في عملية إقرار “البروتوكول الملحق حول التفتيش المباغت” في البرلمان الإيراني وتطبيقه بالكامل مقابل إلغاء العقوبات الأميركية، ما يعني الإعلان عن استعداد طهران للقبول بمزيد من عمليات التفتيش لمنشآتها النووية وغير النووية. إلا أن الرد الأميركي على هذه الرسائل جاء من الرئيس ترمب الذي أكد عدم استعداده قبول أي مقترح إيراني للتفاوض إذا لم يكن صادراً عن المرشد الأعلى أو رئيس الجمهورية، وهو ما يفسر كلام ظريف بأنه “بدأ يفقد صدقيته”، خصوصاً أن هذه الرسائل والمقترحات ترافقت مع الخطوات التصعيدية الإيرانية التي قام بها حرس الثورة في مضيق هرمز بتوقيف عدد من ناقلات النفط وآخرها احتجاز ناقلة النفط البريطانية واقتيادها إلى قاعدة بندر عباس التي تعتبر أكبر قاعدة بحرية تابعة لحرس الثورة مشرفة على مضيق هرمز.
مواقف المرشد
وإذا ما كان الإجراء الذي قامت به القوات البحرية في حرس الثورة ضد الناقلة البريطانية يصب في إطار “تنفيذ نيات” وترجمة مواقف المرشد الأعلى للنظام الذي أكد قبل أيام أن بريطانيا “ستدفع ثمن أعمال القرصنة التي تقوم بها” في تعليقه على توقيف الناقلة الإيرانية “غريس1” في مضيق جبل طارق من قبل قوات البحرية الملكية البريطانية بناء على طلب أميركي. إلا أنه قد يحمل تبعات وتداعيات خطيرة على الجهود الدبلوماسية التي تبذلها حكومة روحاني للخروج من الأزمة المتصاعدة مع واشنطن ومسرحها مياه الخليج ومضيق هرمز وأمن إمدادات الطاقة في هذه المنطقة التي تعني المجتمع الدولي بشكل عام.
فالرئيس الإيراني ورأس دبلوماسيته يدركان جيداً التداعيات التي قد يحملها أي تصعيد في الخليج على الرؤية الإستراتيجية التي تسعى طهران إلى تكريسها وانتزاع اعتراف دولي خصوصاً أميركياً بها، أي ما يتعلق بتشكيل منظومة أمنية تتولى مسؤولية الحفاظ على أمن المعابر المائية لإمدادات الطاقة واستقرارها، الأمر الذي يفرض إيران شريكاً أساسياً في أي نظام أمني قد يجري التوصل إليه بينها وبين دول المنطقة، انطلاقاً من أن إيران تمتلك أكبر حدود مائية مع مياه الخليج تصل إلى حوالى 1500 ميل، وتشرف على إدارة حركة المرور في مضيق هرمز بسبب وقوع الجزء الصالح للملاحة ضمن نطاق المياه الإقليمية الخاصة بها، وهو ما دفع ظريف للتأكيد أن إيران “هي الدولة الأقوى في المنطقة، ولا يمكن إقامة أي نظام أمني أو فرض الأمن في المنطقة من دون إيران”.
التصعيد الأمني الذي لجأت إليه قوات حرس الثورة البحرية، يعزّز الاعتقاد بوجود مسارين مختلفين في تقدير الموقف وآلية التعامل مع المستجدات الأمنية في منطقة الخليج وأمن الملاحة في مضيق هرمز، مسار يمثله تيار متشدد داخل النظام والمؤسسة العسكرية ويعتقد بأن استعراض القوة وإظهار القدرات العسكرية لإيران والتلويح بقدراتها على خوض معركة شاملة بوجه التهديدات الأميركية يساعد على فرض إيران كقوة عسكرية لا يمكن تجاوز دورها وموقعها وبالتالي يساعد على فرضها شريكاً على خريطة المنطقة وأمنها، في مقابل مسار دبلوماسي يقوده ظريف مدعوماً من روحاني وقوى واقعية داخل النظام، ترى ضرورة الحد من منسوب التصعيد وقطع الطريق على أي تطور قد يؤدي إلى إشعال حرب تطيح كل المنجزات والطموحات التي تسعى إيران إلى الحصول عليها، خصوصاً الجهود التي بدأ ظريف في الترويج لها قبل أشهر من خلال الطرح الذي قدمه من العاصمة العراقية بغداد بالدعوة إلى توقيع “معاهدة عدم اعتداء” مع دول المنطقة، والذي أيدته موسكو واعتبرته فرصة لإطلاق عملية حوار جدية بين إيران ودول المنطقة.
وتتخوّف حكومة روحاني من أن تؤدّي الاستفزازات الإيرانية المستمرة في مياه الخليج، إلى تسريع الإجراءات الأميركية التي بدأها مبعوث الرئيس للأزمة الإيرانية براين هوك في حشد تأييد دولي لتشكيل آلية أمنية وعسكرية من الدول المعنية بأمن إمدادات الطاقة من منطقة الخليج تتولى مهمة التصدي للاستفزازات الإيرانية وتمنعها من تهديد المعابر المائية خصوصاً مضيق هرمز، وهي جهود بدأت تتبلور من خلال الدعوة إلى عقد لقاء تشارك فيه أكثر من 65 دولة أعلنت مملكة البحرين استعدادها لاستضافته لبحث هذه الآلية وتشكيل هذا التحالف الدولي بوجه إيران.
ما يعني في حال النجاح في تشكيله خسارة إيران دورها في إدارة مضيق هرمز ووضعه تحت الوصاية والحماية الدولية العسكرية والأمنية، وبالتالي يصبح أي اعتداء تقوم به القوات الإيرانية بمثابة اعتداء على الأمن الدولي.
ضربة للدبلوماسية
إضافة إلى هذه المخاوف، فإن عملية احتجاز الناقلة البريطانية، قد تشكل ضربة للجهود التي يبذلها ظريف مع نظيره البريطاني جريمي هانت لحل أزمة جبل طارق، ما قد تدفع الحكومة في لندن إلى اتخاذ خطوات عقابية ضد إيران، قد تصل إلى إمكان فرض عقوبات عليها، ما يعني انتقال بريطانيا من موقع الدول الساعية إلى التوصل إلى آلية تحدّ من التصعيد بين إيران وأميركا، بالتعاون مع فرنسا وألمانيا وبالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي، إلى موقع المؤيد للإجراءات الأميركية والداعم لها والمشارك فيها، وهو انتقال إذا ما حدث فسيرتد سلباً على مواقف الدول الأوروبية التي ستكون محرجة بين الاستمرار في العمل من أجل التخفيف من حدة العقوبات الأميركية وبين الانضمام إلى الشريك البريطاني.
وبالتالي يمكن القول إن طهران قد دخلت في لعبة معقدة على صعيد خروج الصراع الداخلي بين أقطاب النظام إلى العلن، وفي آلية إدارة الصراع والأزمة مع الإدارة الأميركية والتي من المحتمل إن لا تبقى محصورة بين الطرفين، بل تتسع دائرتها لتصبح دولية، ما قد يعقد الحلول مستقبلاً.
اندبندت