قد تكون العبارة التي استخدمها النائب السابق عن حزب الله، نواف الموسوي، في تقديم تسويغه الأوليّ لقرار استقالته، أو إقالته، من موقعه كنائب عن الأمة اللبنانية، بقوله “فضّلت أن أكون أباً على أن أكون نائباً”، محاولة من الموسوي للاختباء وراء البعد الإنساني الأبويّ وما تعرضت وتتعرض لها كريمته “غدير” مع طليقها ابن الشيخ محمد توفيق المقداد، المسؤول الثقافي السابق للحزب والوكيل الشرعي لآية الله علي خامنئي، في بيروت تحت رعاية الوكيل الشرعي العام الشيخ محمد يزبك، من أجل إحراج قيادة هذا الحزب والتصويب على عمق الأزمات الداخلية التي تعصف بصفوفه.
وهنا ليس مجالا للشك أو التشكيك في مدى صدقية السيد نواف في عاطفته ووقوفه إلى جانب ابنته التي وقع ويقع عليها الظلم، ولعل لجوءه لاستخدام السلاح بوجه طليق ابنته، قد يكون متأتيا من شعوره بالظلم الذي أنزله بحق ابنته عندما وافق بداية على تزويجها من “ابن الشيخ”، وتعويضا عن الخديعة التي انطلت عليه في هذه “القربى”، والتي استطاع “الشيخ” أن يدلّس عليه فيها، على غرار ما فعله الشيخ منذ بدايات تشكّل حزب الله وانضمامه الإشكالي لهذا الحزب، واستطاع اختراق مدارج السلطة الحزبية، إلى أن صار في مفاصل القرار.
ولعل الموسوي في هذه القربى لا يخرج عن السياق السائد بين قيادات الحزب السياسية والدينية في التزاوج بين أبناء وبنات المسؤولين، على غرار ما هو متبع داخل العائلات الدينية، وهي علائق تعمل على ضبط إيقاع العلاقات بين هذه العائلات وتخفف من حدة الصراعات بينها.
بالعودة إلى مقولته “فضّلت أن أكون أباً على أن أكون نائبا”، وبعيداً عن الجانب الأبويّ فيها، فالعبارة في حدّ ذاتها تحمل بعدا سياسيا فاضحا لآليات التعامل الإنساني والسياسي داخل منظومة حزب الله التنظيمية والاجتماعية والسياسية، وهي تسمح بأن يذهب المتابع في تفسيرها إلى أبعاد أخرى تساعده على محاولة تلمّس ما يدور من صراعات داخل الحزب، وتؤسس لمسار سيسمح مستقبلا بخروج الصراعات الداخلية للحزب إلى العلن بكل أبعادها، والتي لن تقف عند حدود العلاقات الاجتماعية أو الإنسانية، بل ستطال وستصل إلى المستويات الأمنية والعسكرية وما يجري في أروقته من صفقات سياسية.
وموقف الموسوي قد يتحول إلى رسالة مباشرة لقيادة الحزب بكل مستوياتها، تجعل من قضيته جرس إنذار، قد لا يكون مبكراً، يسلط الأضواء على عمق الأزمة الداخلية ومدى خطورة انعكاساتها على بنية الحزب التنظيمية وبيئته الحاضنة، والتي من المرجح -حد التأكيد- أنها ستعيد فتح الحسابات والملفات عما شهدته المراحل السابقة من إشكالات تم التعتيم عليها أو حجبها خلف جدار الحفاظ على المقاومة والدفاع عنها وعن بيئتها وناسها.
ومنذ احتفال “النصر” بعد حرب يوليو (تموز) 2006، ومقولة الأمين العام للحزب حسن نصر الله الشهيرة “أشرف الناس”، تحوّلت آليات العمل التي يقوم بها حزب الله إلى “تابوهات” لا يمكن التعرض لها أو انتقادها، انطلاقا من كونها معمّدة بالنصر ودماء الشهداء والانتصار على العدو الإسرائيلي.
وعلى الرغم مما شاب مرحلة إعادة الإعمار والتعويضات التي قام بها الحزب بعد هذه الحرب و”الفورة” المالية التي تفشت بين قياداته ومسؤوليه، فإن حجم “الفساد” ومظاهر التبذير وتشكل طبقة جديدة من الأغنياء، أجبرت نصر الله على التدخل المباشر لضبط الأمور والحدّ من هذه المظاهر أكثر من مرة، إلى الحد الذي اضطر فيه إلى أن يعقد اجتماعا مستخدما دائرة تلفزيونية مغلقة مع نساء قيادات ومسؤولي الحزب لتوبيخهن وتأنيبهن على مظاهر الإنفاق والبذخ التي يمارسنها من دون رعاية الأوضاع المالية والمعيشية لغالبية الشريحة الاجتماعية التي تمثل البيئة الحاضنة للحزب، وصولا إلى إصداره أوامر وقرارات تفرض على أزواجهن بسحب سيارات الدفع الرباعي التي تحولت إلى ظاهرة بين تلك النسوة، وتخفيض المستحقات المالية وفرض رقابة على تصرفاتهن المالية والاجتماعية الطبقية.
“أن أكون أباً على أن أكون نائبا”، لا تعني فقط أن الموسوي فضّل التخلي عن موقعه النيابي وحصانته ومميزاته التي يتصارع عليها الكثيرون ويقدمون “ماء الوجه” من أجل الحصول على فرصة للدخول إلى المجلس النيابي. بل تعني فيما تعني أن الموسوي فضّل أن لا يستمر في لعب دور “شاهد الزور” على ما يجري داخل الحزب من صراعات وصفقات، هذا على فرض أنه لم يكن شريكا في هذه الصراعات أو جزءا منها، وأن يسهم في تفجير الأسئلة حول أداء الحزب الداخلي والعام، فهو رفض أن يستمر جزءا من هذه التركيبة.
خطورة ما أقدم عليه الموسوي في قراره، أو تداعيات القرار الذي اتّخذه الحزب بحقه وتم إخراجه بصيغة القرار الشخصي، هذه الخطورة تكمن في أن الموسوي لم يتخلَ عن التزامه الحزبي، وأعلن نفسه “أباً” أو حارسا لمبادئ الحزب أمام طغيان حالة الابتعاد عن المقولات المؤسسة لهذا الحزب، إضافة إلى كونه “أباً” بيولوجيّاً لابنته غدير. وهو يحاول التصويب على ما يعتري مسيرة هذا الحزب من غلبة الجماعات الوصولية والبراغماتية التي بدأت تتسيّد الموقف وتسيطر عليه وعلى مفاصله. وبالتالي وضع علامات استفهام حول الكثير من الأشخاص الذين وصلوا إلى مواقع متقدمة في تركيبته التنظيمية والفكرية والأيديولوجية، والدعوة للعودة إلى البدايات والمنطلقات للتدقيق في آليات وصولهم إلى مواقع متقدمة في القرار.
إلا أن هذه العملية باتت صعبة ومستعصية، خصوصا في ظل الترهل الذي أصاب جسم الحزب، وبات من العسير عليه اللجوء إلى عملية “تنظيف” داخلية، خوفا من تداعياته السلبية والتي قد تهدّد بإمكانية تصدعه وحصول انشقاقات، أو الانقلاب على قيادته، ما قد يفرض عليه التعايش مع ما انتهت إليه الأمور من نشوء مراكز قوى متعددة، تحصر مهمة أمينه العام في صبّ اهتماماته على ترميم هذه التصدعات والحفاظ على الصورة العامة للحزب، وما فيها من جهود تفرض عليه التصدي لأبسط الأمور، وهو ما يفسر هذه المركزية في رسم السياسات والقرارات المالية والعسكرية والأمنية والتحالفات داخل الحزب وتجمعها في يد الأمين العام.
اندبندت