تونس على طريق ما بعد الإيديولوجيا

تونس على طريق ما بعد الإيديولوجيا

تونس سجلّت البداية والشرارة لما سمي “الربيع العربي”. وفي تونس تأكد الاستثناء من القاعدة التي تحكمت بثورات ليبيا ومصر وسوريا واليمن وسواها: لا حرب أهلية، لا جيش يطلق النار على الحراك الشعبي دفاعاً عن النظام السلطوي، لا عسكرة ثورة، لا جيش يمسك بالسلطة، ولا دخول قوى خارجية في الصراع تحت عنوان الدعم لهذا الطرف أو ذاك ضمن لعبة جيوسياسية إقليمية ودولية. شيء مثل الحلم بعد هرب الرئيس زين العابدين بن علي: انتقال سلس للسلطة بحسب الدستور أولاً ثم بحسب الشرعية الشعبية من نظام أحادي سلطوي إلى نظام تعددي ديمقراطي.

والسر هو ما صنعه رجل الاستقلال “المجاهد الأكبر” الرئيس الحبيب بورقيبة من “قوة ناعمة” لتونس عبر التعليم والإصلاح الاجتماعي والتمكين للمرأة، بحيث تسارع نحو المجتمع المدني والطبقة الوسطى المنفتحة. وهذه هي “الثورة العميقة” التي لم يجرؤ على القيام بها الثوار والانقلابيون العرب. فهم اكتفوا بتغيير السلطة من دون تغيير النسيج الاجتماعي، وتباروا بالشعارات الوطنية والسياسية حتى بعد الهزائم العسكرية أمام إسرائيل. وهم اتهموا بورقيبة بالخيانة ونظموا التظاهرات ضده عندما زار دول المشرق العربي في منتصف ستينيات القرن الماضي. لماذا؟ لأنه دعا إلى قبول مشروع التقسيم في فلسطين ضمن نظريته “خذ وطالب”. وهو المشروع الذي يطالب الفلسطينيون اليوم بأقل من نصفه، من دون أمل في الحصول عليه.

وقصة الرئيس الباجي قايد السبسي هي مختصر لقصة تونس. كان محمد الباجي حين استقلت تونس بزعامة بورقيبة عام 1956 في 30 من عمره متخرجاً من جامعة السوربون ويعمل في المحاماة. وكان من أوائل الذين ضمهم بورقيبة إلى ديوانه، ولعبوا أدواراً مهمة في الحزب الدستوري والدولة. إذ تولى وزارات الداخلية والدفاع والخارجية ثم عاد إلى مكتب المحاماة. بعد انقلاب زين العابدين بن علي على بورقيبة، ترشح قايد السبسي للبرلمان وصار رئيساً له قبل أن يعود إلى مكتب المحاماة. عام 2009 أصدر كتاباً بعنوان “الحبيب بورقيبة: القمح والتبن”.

بعد هروب زين العابدين اختاره الرئيس المؤقت فؤاد المبزع رئيساً للوزراء. وبقي حتى اتفاق الترويكا على تقاسم السلطة بعد فوز حركة “النهضة” الإسلامية بالغالبية في البرلمان. أسس حزب “نداء تونس” العلماني الذي احتل المرتبة الأولى في الانتخابات النيابية الثانية، وربح هو الانتخابات الرئاسية. ومن إمارات الاستثناء التونسي تفاهم التيار الإسلامي والعلمانيين على الحكم معاً، وهو ما لم يحدث في أي بلد عربي. وربما كان الدرس المصري هو الذي تعلمه زعيم “النهضة” راشد الغنوشي، بعدما أسقط الجيش حكم الأخوان المسلمين والرئيس محمد مرسي. لكن الرئيس الباجي قايد السبسي هو الرجل الذي كانت الثورة في حاجة إليه، وجاءت به من الماضي البورقيبي المتحرر من سلبيات سلطوية بورقيبة. وهو جمع الماضي والحاضر والمستقبل معاً. ولم يكتم في حديث مع “نيويورك تايمز” القول “نحن محظوظون، ليس لدينا جيش قوي”. والسؤال هو: تونس إلى أين بعد رحيله؟

تقول وزيرة الخارجية الأميركية ومستشارة الأمن القومي سابقاً كوندوليزا رايس في كتاب جديد عنوانه “قصص من طريق طويل للحرية” أن التاريخ لا ينتهي. وترى أن محاولات بناء الديمقراطية في سوريا والشرق الأوسط فشلت، لأن الطموح إلى الديمقراطية يحتاج إلى حجر أساس هو مؤسسات سياسية تخلق مرجعاً أمام الشعب لكي يجرب السلطة، وهذا لم يحدث. لكنه حدث في تونس. ما كان إحراق البوعزيزي لنفسه سبب الثورة بل الشرارة التي أشعلت تراكم الغضب، والنقطة التي طفح بها الكيل بحسب المنطق الديالكتيكي: “التراكم الكمي البطيء يؤدي إلى تحوّل كيفي سريع”. ولا خوف الآن على التعددية في تونس، على الرغم من ثلاث ظواهر معلقة. الأولى هي تشظي الأحزاب بالصراعات الفردية إلى حد أن “نداء تونس” خرجت منه مجموعة أحزاب. والثانية هي لجوء الشباب العاطل من العمل إلى الأصولية والإرهاب والانضمام إلى “داعش”. والثالثة هي سيطرة “مافيا” المال على الاقتصاد وارتفاع مستوى البطالة والفساد وانخفاض نسبة التنمية الاقتصادية.

ذلك أن الصراعات الإيديولوجية تفقد مكانتها في المجتمع التونسي، والانتخابات النيابية والرئاسية المقبلة تدور على قضايا الحياة وتدار كأنها في بلد أوروبي وضع الإيديولوجيات وراءه. رئيس الوزراء السابق ونائب رئيس “النهضة” علي العريض يقول “خطابنا لن يكون إيديولوجياً ولا مسانداً للإسلام السياسي، بل سيكون اقتصادياً اجتماعياً براغماتياً”. وزعيمه رئيس “النهضة” راشد الغنوشي الذي قال في كتاب “الحريات العامة في الدولة الإسلامية” إن “في الإسلام نظاماً للحكم صادراً عن الله” يتكيّف الآن مع واقع الحياة. وما يقوله هو “أن الطبقة السياسية نجحت في صوغ دستور تقدمي وقوانين دعمت دولة المؤسسات والحريات العامة، وأصبحت الأولوية للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية”.

وقمة النجاح السياسي هي النجاح الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. والدور الآن للأجيال الجديدة.

اندبندت