مضى أقل من نصف عام على اشتباكات جوية بين الهند وباكستان فوق منطقة كشمير، وما تلا ذلك من تهدئة، فإذا بالهند تخرج، الاثنين الماضي (5 أغسطس/ آب)، بمرسوم رئاسي، “واجب التنفيذ الفوري” على ما أعلن وزير الداخلية الهندي، بإلغاء الحكم الذاتي الذي تتمتع به الولاية. واستبقت الهند القرار بإرسال عشرة آلاف جندي سيطروا على الولاية، وأوقفوا الاتصالات الهاتفية والإلكترونية معها، ووضعوا زعماء البلاد قيد الإقامة الجبرية.
يكسر القرار الهندي “ستاتيك” قائما منذ نحو سبعين عاما، حظي فيه الإقليم بالحكم الذاتي بعد إعلان استقلال كل من الهند وباكستان، عقب انتهاء الاحتلال البريطاني شبه القارة الهندية في العام 1947. وقد سبق هذا الإعلان نشوب حرب بين البلدين اللذين دشّنا استقلالهما بخوض حربٍ بينهما استغرقت، بصورة متقطعة، نحو عامين، وضمنت الهند نفوذا لها على ما هو أقل من ثلثي الولاية. وقد قبلت باكستان على مضض بالأمر الواقع (تدخل الأمم المتحدة)، بعدما خسرت ستة آلاف من جنودها مقابل خسارة 1500 جندي هندي. ولم تلبت الهند أن سنّت قانونا يجعل من جامو وكشمير ولاية هندية مع تطبيق الحكم الذاتي فيها. ثم يُراد الآن إلغاء المسلسل التاريخي، وضم الإقليم بالسطوة العسكرية. وقد ردّت باكستان بسحب سفيرها من نيودلهي، ودعوة السفير الهندي إلى مغادرة إسلام أباد، مع وقف التجارة بين البلدين.
لم تبرز أسباب أو دوافع مباشرة للقرار الهندي الذي جاء مفاجئاً، وبدا “مبيّتا”، إذ اقترن بالتنفيذ الفوري، والمقصود بذلك كبح أي رد فعل داخلي في مهده، وفرض الأمر الواقع الجديد بالسطوة العسكرية المباشرة، وتكميم الأفواه بالتحفظ على الساسة المحليين غير المتطرّفين. ولم يسبق للهند أن اتخذت مثل هذا القرار، حتى مع وصول حزب بهاراتيا جاناتا (حزب الشعب) اليميني إلى الحكم منذ العام 1996، وهو الحاكم الآن بعد فوزه في انتخابات مايو/ أيار الماضي. على أن الحزب، في وضعه الحالي برئاسة رئيس الحكومة ناريندرا مودي، يبدو أكثر تشدّدا في نزعته القومية الهندوسية، مع ميل طاغ إلى الشعبوية التي يسهل شحنها أو إثارتها في بلد متعدّد الأعراق والأديان مع أغلبية هندوسية، عما كان عليه قبل عقدين.
وواضح أن هذا الحزب يستفيد من مناخ دولي عام، تزدهر فيه الشعبوية وازدراء القانون
بدا قرار الهند “مبيّتاً”، إذ اقترن بالتنفيذ الفوري لكبح أي رد فعل داخلي في مهده، وفرض الأمر الواقع الدولي وقيم التعدّد والتعايش. يستفيد، ويُسهم بقسطه في تعميق هذا الاتجاه، وهذا النازع القومي الديني هو العامل الأكثر وضوحاً في القرار المفاجئ الذي يهدّد بإشعال حربٍ طاحنةٍ مع باكستان، إذا ما انساقت الأخيرة لهذا التحدّي غير المسبوق الذي يكسر المعادلات المستقرة، وينتهك حتى الدستور الهندي في مادته 370 التي تمنح الإقليم حكما ذاتيا كاملا.
في إبريل/ نيسان الماضي، وصف زعيم الحزب أميت شاه (وزير الداخلية حاليا) المهاجرين غير الشرعيين المسلمين بـ”النمل الأبيض”، وقال إنه سيقذفهم واحدا واحدا في خليج البنغال. بينما أبدى استعداده لتسوية أوضاع المهاجرين غير الشرعيين من الهندوس والبوذيين والسيخ بل ومنحهم الجنسية! وتوعّد بطرد مسلمي الروهينغا الذين فر بعضهم إلى الهند من مذابح ميانمار. وقد لوحظ أن التوترات اشتدّت في الأشهر الأخيرة بين الهندوس والمسلمين، حيث يتم استضعاف الفئة الأخيرة، لأنها تضم مائتي مليون نسمة فقط. وبالنظر إلى أن غالبية سكان جامو وكشمير (زهاء 13 مليون نسمة) من المسلمين الذين يشكلون 90% مع أقلية هندوسية وبوذية، فإن القرار الرئاسي سوف يلغي حُكما حق الكشميريين بالسيطرة على أراضيهم وممتلكاتهم، وسوف يتيح تغييرا ديمغرافيا تنتهي فيه خصوصية هذا “الجيب” المسلم، وبما يغلق الطريق على أي استفتاء لتقرير المصير مستقبلا في هذا الإقليم.
وللمرء أن يكون أمينا مع الوقائع، فاستضعاف المسلمين يتم على قدم وساق في الصين بالتنكيل بطائفة الإيغور، وقبل ذلك في ميانمار، وفي غروزني الشيشانية، ومواقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب من هجرة أبناء دول إسلامية إلى أميركا، والتوسع القومي الطائفي الإيراني، وتضخم الشعور الديني المتطرّف في المجتمع الإسرائيلي، تمثل مظاهر لهذه الحملة العابرة للقارّات التي تؤكد صحة نبوءات الصراع الحضاري أو الثقافي (تسميات ملطّفة للصراع الديني) التي أطلقها المفكر الأميركي صامويل هنتنغتون، بعد انتهاء الحرب الباردة، وإن كان الأمر على أرض الواقع يختلف قليلا، فالمشاعر والرؤى الدينية تُستخدم قاطرة للتعصب القومي وبسط النفوذ، هذا من دون إغفال تأثير نشاطات إرهابية لتنظيمي داعش والقاعدة في غير مكان في العالم في إذكاء الإسلاموفوبيا، وصولاً إلى بعض مظاهر تديين السياسة في دول كبرى.
ما زال القرار الرئاسي بحاجة إلى مصادقة البرلمان والمحكمة العليا في الهند، لكن مفاعيله سرت على الأرض قبل أن يعبر القنوات الدستورية هذه. وبالنسبة إلى باكستان، يشكل الإقليم مصدرا للثروة المائية، حيث تنبع مياه أنهارها الرئيسية من تلك المنطقة، علاوة على ما يمثله الإقليم من منطقة جغرافية حاجزة تمنع الاحتكاك المباشر مع الجارة اللدودة الهند.
ليست باكستان بريئة كل تلك البراءة، فقد سبق أن دعمت جماعات جهادية كشميرية ضد القوات الهندية، غير أن القمع الهندي وفّر، من جانبه، أرضا خصبة لنمو التشدّد، فالتظاهرات تقمع
“انهمكت باكستان على أعلى المستويات في تدارس سبل الرد على التحدّي المكشوف الذي يفتح فصلا جديدا في النزاع” بشدة في الإقليم، وكانت الديمقراطية الهندية ذات أنياب هناك، وحق تقرير المصير لا تعترف به حكومات حزب جاناتا المتطرّف. وفي وسع المرء تخيّل أن الهند ما كانت لتجنح إلى هذه الخطوة لو أن حزب المؤتمر المعتدل كان هو الحزب الحاكم (سبق لجواهر لال نهرو أن أيّد خيار تقسيم الإقليم بين الهند وباكستان)، فيما تعيد السفيرة الباكستانية إلى الأمم المتحدة، مليحة لودي، إلى الأذهان أن ما تفعله الهند مع كشمير يشبه ما تفعله إسرائيل التي ألغت الاتفاقيات مع الجانب الفلسطيني، وتقوم فعلياً بضم الأراضي إليها، وازدراء نيودلهي القانون الدولي يشبه ازدراءً مماثلاً لهذا القانون من واضعي خطة السلام الأميركية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي (صفقة القرن).
يبدو القرار الهندي إعلاناً للحرب. وقد انهمكت باكستان على أعلى المستويات في تدارس سبل الرد على التحدّي المكشوف الذي يفتح فصلا جديدا في النزاع. وإذ ترتبط كل من الهند وباكستان بعلاقات وثيقة تاريخيا مع العالم العربي، فمن المصلحة والحكمة، على الرغم من كل ما يعتري الحال العربي، أن يتم بذل جهدٍ للتوسط بين الطرفين، لنزع فتيل التوتر الخطير، وإعادة الوضع الى ما كان عليه قبل الخامس من أغسطس/ آب الجاري.. على الأقل من أجل تحسين الصورة العربية في العالم، وكي لا تنشب توترات بين العمالة الوافدة: الهندية والباكستانية والبنغالية والنيبالية، ومجموع تعدادها بالملايين في دول الخليج الست.
العربي الجديد