انتهى الاستعراض، وتقدّم للانتخابات الرئاسية المبكرة في تونس 98 مرشحاً، لم يُقبل منهم سوى الربع، ممن توفرت فيهم الشروط القانونية. مشهد لا يتوفر إلا في تونس الجديدة، التي اختارت الديمقراطية أسلوباً وحيداً لتحقيق التداول على الحكم.
المؤشرات الكمية والنوعية تدل على أن الانتخابات الرئاسية ستكون هذه المرة قوية وتنافسية بشكل غير مسبوق. تساوت “الرؤوس” تقريباً، وأعلن عشرات المرشّحين من الشخصيات المعروفة على الساحة السياسية عن رغبتهم في الوصول إلى قصر قرطاج، متمنين أن يختارهم الشعب في 15 سبتمبر/أيلول المقبل. فعلوا ذلك، وهم يدركون أن الرئيس في تونس لا يتمتع بصلاحيات مطلقة ولا ينفرد بسلطة القرار مثل بقية الرؤساء العرب. وقد عاينوا ذلك مع كل من منصف المرزوقي والباجي قائد السبسي.
”
كل واحد من المرشحين الجدد يعد ناخبيه بأنه سيكون مختلفاً، وأنه الأفضل لإخراج البلاد والعباد من المأزق الراهن
”
لكن كل واحد من المرشحين الجدد يعد ناخبيه بأنه سيكون مختلفاً، وأنه الأفضل لإخراج البلاد من المأزق الراهن. ولعل أسلوب إدارة السبسي لهذا المنصب قد أغرى الكثير منهم بخوض التجربة، لأنه على الرغم من الصلاحيات الرئاسية المحدودة نسبياً، فقد نجح في فرض نفسه على الحياة العامة كأنه في نظام رئاسي، وكاد يقلب الأدوار بينه وبين رئيس الحكومة الذي منحه الدستور سلطات واسعة. ما لم يفهمه الكثيرون أن منصب رئيس الدولة في تونس لم يعد قضاءً وقدراً، وإنما أصبح ثمرة اختيار شعبي وإفراز لصندوق الاقتراع. والرأي العام التونسي لا يزال يمر بحالة اختبار، ويعاني من عزوف حاد نتيجة الخيبات المتتالية وتراجع منسوب الثقة في نخبه السياسية، كما أنه لا يزال يخضع منذ أكثر من ثماني سنوات لعمليات “تمرين” ديمقراطية صعبة. لهذا قد يخطئ الاختيار، وقد تؤثر فيه الشائعات وتغري البعض من رموز الأموال واللوبيات القديمة والجديدة. لكن سيكون من المستبعد أن يقبل التونسيون برئيس يُصنع تحت الأرض، أو في مصانع خارجية. فالمجتمع المدني والإعلام مجندان حالياً لمراقبة كل مرشح للتأكد من مصادر تمويل حملته ومراقبة تحركاته.
عند إلقاء نظرة أولى على قائمة المرشحين، يُلاحَظ أنهم قدموا من مختلف الأوساط والمشارب. هناك وجوه قديمة تراهن على فشل حكومات ما بعد الثورة لتعيد الاعتبار للماضي القريب، ومنها جاءت بها المرحلة الديمقراطية، ووضعتها في موقع المسؤولية، لكنها لم تفلح في تجديد ثقة المواطنين فيها، وها هي تعيد الكرّة بحجة أن “الثورة المضادة” منعتها من إنجاز وعودها الثورية. ومنها تلك التي حافظت على نفسها النضالي الذي بدأته منذ ستينات القرن الماضي، لكن تعثّرت بها السبل وتأثرت سلباً بأخطائها السياسية وحساباتها الخاطئة التي ارتكبتها في منتصف الطريق فأرجعتها إلى الخلف، وها هي تحاول الآن استجماع قواها وإقناع مواطنيها بأنها الأجدر في رئاسة البلاد. وهناك التكنوقراط، سواء من كانت له تجربة مهنية واسعة في أحد المؤسسات الدولية أو عاش في تونس واستقر بها، وهؤلاء يظنون أنهم أولى من قادة الأحزاب الذين يمارسون السياسة من دون برامج واضحة أو يفتقرون للخبرات العملية الضرورية، خصوصاً في المجالات الاقتصادية والمالية. وهناك من يعتقد أن الأيديولوجيا قادرة على معالجة كبرى المسائل، وأنها المفتاح السحري لتحقيق آمال الشعوب وتحويل أحلامها إلى واقع ملموس. وهناك من نجح في التحليل السياسي وتوظيف المعلومة، ما فتح له طريق الوصول إلى الناس، فظن أن ذلك يمكن أن يساعده على الوصول إلى قصر الرئاسة. ومن هؤلاء المرشحين من توفّرت له ظروف الاستثمار في مجال الإعلام، واشتغل في العمل الخيري، فاتخذ من ذلك استراتيجية لقلب موازين القوى، وقد يصبح رئيساً لتونس ما بعد الثورة.
في ظل هذا المشهد المتحرك والمثير، لمعت بعض الأسماء التي يصعب التكهن بمصيرها في هذا السباق، لكنها أثارت الكثير من الجدل. أول هذه الأسماء وزير الدفاع المستقيل عبد الكريم الزبيدي. هذا الطبيب الجامعي يتسم بكونه في قلب السياسة من دون أن يهتم بها، أو هكذا يبدو. قوته في كونه لا يتكلم كثيراً، ولم يكن يبدي انشغالاً بما يجري في الكواليس، على الرغم من إلمامه بأهم المعلومات والملفات المطروحة في البلد. يرغب فيه الكثيرون على الرغم من استقلاله عنهم ومصارحته لهم بما يعتقد. جعل منه السبسي صندوق أسراره، ووصفه رئيس حركة “النهضة” راشد الغنوشي بـ”الصديق”، وليست له خلافات ظاهرة مع كل الأحزاب، بما في ذلك أحزاب اليسار. كما يتمتع بثقة الاتحاد العام التونسي للشغل، وله صداقات تجمعه برجال الأعمال. لكل هذه الأسباب يتمتع الرجل برصيد هام جعل البعض يحجم عن الترشح والإعلان عن دعمه.
”
يتسم وزير الدفاع المستقيل عبد الكريم الزبيدي بكونه في قلب السياسة، من دون أن يهتم بها، أو هكذا يبدو
”
ثار جدل أيضاً حول رئيس الحكومة يوسف الشاهد، الذي قرر أيضاً الترشح للانتخابات الرئاسية. فهو يعتقد بأنه وضع البلاد على طريق الإصلاحات، على الرغم من اعتراض الكثيرين على هذا القول. ولكن، هل السنوات الثلاث التي قضاها كقائد لفريق حكومي كفيلة بجعله الأجدر من غيره للانتقال إلى قصر قرطاج؟ سؤال من الصعب الإجابة عنه في هذه المرحلة، لأن ممارسة السلطة تقتات من شعبية المسؤول، خصوصاً في المراحل الانتقالية الصعبة. الوجه الثالث هو مرشح حركة “النهضة” نائب رئيسها عبد الفتاح مورو. هو شخصية عرفها التونسيون في مراحل متعددة منذ أواسط ستينيات القرن الماضي، يجمع بين الطرافة والجد، وبين الدين والسياسة. يتمتع بالعديد من عناصر القوة، ويسنده جمهور متنوع وأوسع من دائرة قاعدة “النهضة”. لكنه سيواجه معارضة شديدة من كل الذين لا يريدون أن يروا نهضوياً في قصر قرطاج الذي أسسه الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة. أما المرشح الذي يريد الجميع قطع الطريق أمامه، والذي تعطيه استطلاعات الرأي الأولوية، فهو مالك قناة “نسمة” نبيل القروي. كما أن بقية الأسماء ليست هينة، وهو ما يؤكد أن الانتخابات الرئاسية ستكون غير مسبوقة ومشوّقة، فكل اختيار ستكون له تداعيات على تجربة ديمقراطية لا تزال هشة. لكن مع ذلك، فإن تونس ستؤكد مرة أخرى أنها فعلاً استثناء في محيط إقليمي صعب وغير مطمئن.