لقد قُدمت قراءات عديدة حول خلفيات الموقف الإيراني من الربيع العربي، وركزت تلك القراءات بالأساس حول نقطتين، هما المشروع الإقليمي الإيراني ومكتسباته المذهبية والاستراتيجية، والتقاطعات الإيرانية مع القوى الكبرى في القلق من التحولات الاستراتيجية في بيئة المكون السني، واحتمال أن تتحرك المنطقة صوب استقلالية لها معنى.
وهي تحليلات صحيحة ولها ما يعززها من معطيات وقرائن، غير أن البعد المتعلق بطبيعة النظام الاستبدادي التسلطي في إيران، وقلقه من تأثيرات العدوى الديمقراطية في البيئة المحيطة (العرب، تركيا) على بقائه وتماسكه، لم تجد الجهد الكافي من النقاش والتحليل، مع أنها -في نظري- تمثل محددا رئيسيا في الموقف الإيراني من الحرب على الربيع العربي.
الرسائل السورية المزعجة
لقد رحبت إيران في البداية بالربيع العربي في مرحلتيه التونسية والمصرية، ووصف مرشد الجمهورية الإيرانية على خامنئي تلك الثورات بالصحوة الإسلامية وقدمها كامتداد للثورة الإيرانية، وكانت تقديرات إيران في هذه المرحلة ترى في الربيع العربي ثورة على النظم القمعية الموالية للغرب، وهي نقطة التقاء أساسية بين الثورة الإيرانية وثورات الشعوب العربية في مصر وتونس.
بيد أن وصول قطار الثورات للمحطة السورية أربك الحسابات الإيرانية وجعلها وجها لوجه أمام استحقاقات الربيع العربي على أكثر من صعيد، فمع الثورة في سوريا اتضح لإيران بشكل لا لبس فيه مركزية المطلب الديمقراطي في الحراك الشعبي ومعه التأكيد على أن المقاومة والممانعة لا تبرر البقاء تحت نير الاستبداد، ولا تغني عن دفع أثمان الاستحقاق الديمقراطي.
واتضح لها أيضا أن عهد تسلط الأقليات والطوائف والأقوام على بقية مكونات الشعب بالقوة والإكراه قد ولى، وأن النفوذ المؤسس -في أوضاع استثنائية- على معادلات خرافية لا تحترم الحقائق على الأرض لا مستقبل له، وهي رسائل مزعجة تتعدى الوضع السوري إلى الداخل الإيراني بنية ومشروعا. وعلى هذا الأساس اعتبرت إيران المحطة السورية من الثورات العربية نقطة تحول في التعاطي مع الربيع العربي الذي أعلنت ضده حربا مفتوحة.
محاور جديدة بالمنطقة
قبل الربيع العربي كانت المنطقة منقسمة إلى محورين، هما محور الممانعة ومحور الاعتدال، وكان الموقف من القضية الفلسطينية هو العامل الأساسي في الفرز بين دول الإقليم، وفي هذا المرحلة كانت إيران تحتل موقعا رياديا في محور الممانعة.
أما في مرحلة ما بعد الربيع العربي الذي قوض نظما استبدادية وبشر بتحولات ديمقراطية عميقة، فقد كانت المنطقة من جديد على موعد مع فرز آخر، حيث انقسمت دولها إلى محورين هما: محور الديمقراطية التي تنادي بها الشعوب الثائرة، ومحور الاستبداد التسلطي الذي ترعاه الأنظمة المتكلسة. وقد اجتمعت عوامل عديدة في دفع إيران إلى التموقع في محور الاستبداد التسلطي، بل والنزول بكامل ثقلها في قيادة الثورة المضادة للربيع العربي وما يرمز إليه.
ما قبل الربيع حازت إيران تعاطفا كبيرا في الشارع العربي كدولة فاعلة في محور الممانعة مؤيدة للمقاومة ومعادية للصهاينة، لكنها خسرت كل هذا التعاطف في مرحلة ما بعد الربيع العربي، عندما حاربت تطلعات الشعوب في الحرية، مما أفقد إيران الدولة والمشروع الألق الأخلاقي والثوري.
الطبعة الإيرانية للاستبداد
يمثل النظام السياسي في إيران واحدا من أكثر الأنظمة استبدادية وانغلاقا في العالم، حيث احتلت إيران في إصدار 2011 من مؤشر الديمقراطية الدولي المرتبة 159 وبقيمة ديمقراطية بلغت 1.99 فقط، متشاركة في هذا الترتيب والقيمة مع سوريا.
لقد تحولت حركة التحرير الاجتماعي التي قادت الثورة الإيرانية عام 1979م وشاركت فيها مختلف تيارات وفئات المجتمع الإيراني إلى ديكتاتورية دينية لا تقل بشاعة عن ديكتاتورية الشاه، وهي ديكتاتورية غيبت التنوع الإيراني سياسيا ومذهبيا وقوميا، فلا حريات ولا صحافة حرة ولا أحزاب ولا مجتمع مدنيا حقيقيا، حيث تم القضاء على كل هذه المظاهر لصالح خلطة عجيبة من رتوش ديمقراطية تجمل نظاما كهنوتيا غير مسبوق في تاريخ الإسلام السني والشيعي على حد سواء.
وإطلالة سريعة على مؤسسات السلطة في النظام الإيراني تبين بوضوح هذه الحقيقة، حيث يمكن تحديد نوعين من المؤسسات:
– سلطة فوق دستورية تتربع على عرشها مؤسسة الولي الفقيهبصلاحيات مطلقة وذات قداسة، وتأتي بعدها مؤسسات تابعة مثل: مجلس خبراء القيادة، مجلس صيانة الدستور، مصلحة تشخيص النظام، والحرس الثوري.
– سلطة شبه ديمقراطية كحالة إدارية بيروقراطية، تتسم بضعف الصلاحيات والخضوع لضغوط المؤسسات الفوق دستورية، وتمثلها السلطة التنفيذية: الرئيس المنتخب والوزراء، والسلطتان التشريعية والقضائية.
إنه نظام استبدادي هجين يجمع بين منظومة استبدادية دينية مع أشكال ديمقراطية فكلورية، وهو يبقى بعيدا عن روح نظام الشورى الإسلامي الذي يعتبر الأمة -وليس رجال الدين- مصدر السلطة، وهو أبعد من الديمقراطية التي تتناقض ولاية الفقيه مع أبسط قواعدها، “إنه نظام غريب لم يعرف التاريخ تجربة مماثلة له. قائد أعلى معصوم وغائب. أما الحاكم الفعلي فإنسان عادي. لكن بصلاحيات مطلقة “(التغرُّب في الثقافة الإيرانية الحديثة، غسان طعان، 237).
إيران وعقدة الديمقراطية
لا يستطيع ملالي إيران تأمين احتكارهم واستبدادهم إلى ما لا نهاية، فالأجيال الإيرانية الشابة لن تستطيع -رغم التنشئة العقائدية على الطريقة الكورية- أن تتنكر لعصرها الذي يرفض الاستبداد التسلطي ويتشوف للحرية والمشاركة الشعبية، وهذه الأجيال التي تراقب ما يجري في المنطقة والعالم لن تقبل أن تظل مغيبة إلى ما لا نهاية.
فإيران التي عرفت أول ثورة دستورية في الشرق الأوسط (المشروطية) عام 1906م، والتي نادت بالدستور والحريات وتحديد صلاحيات الحاكم ستلتحق بركب الشعوب المنادية بالحرية وإنهاء التسلطية، وهي تعيش منذ العام 2009 -بعد تزوير الانتخابات الرئاسية- تفاعلات عميقة في هذا الاتجاه، ناهيك عن دور المعارضة من خارج النظام، وحركة الاحتجاج في الأقاليم المهمشة والقوميات المضطهدة، ثم جاءت أجواء الربيع العربي وأعطت زخما هائلا لحركة الشعوب في الإقليم نحو التحرر، وهذا ما يزعج النظام الإيراني إلى أبعد الحدود.
إن النظام الذي كان يفاخر بهويته ومؤسساته غدا اليوم في عزلة سياسية وإقليمية قاتلة، ففي جواره التركي، تهاوت وصاية الجيش الكمالي لصالح ديمقراطية حقيقية أفرزت تجربة إسلامية مدنية ناجحة سياسيا وتنمويا. وفي الجوار العربي اندلعت ثورات الشعوب تطالب بالديمقراطية وحكم المؤسسات، وفي القلب من هذا الحراك الديمقراطي تيارات إسلامية تؤمن بالتعددية وترفض أي وصاية عسكرية كانت أم كهنوتية.
هذا المناخ المقلق جاء في وقت عجز فيه النظام الإيراني عن بناء نهضة اقتصادية تستر عورة استبداده، كما عليه الحال في سنغافورة والصين، وكان عنصر الجذب الوحيد الذي يحشد الدعم الشعبي للنظام هو البرنامج النووي، وإيران في طريقها للتنازل عنه على طريقة القذافي وبشار من أجل إبقاء النظام.
ويجدر هنا التنبيه إلى أن حساسية النظام الإيراني المفرطة من قضية الديمقراطية قد سبقت الربيع العربي، فمن أجل التأثير على النظام الإيراني في نقطة ضعفه الأساسية، عمدت الولايات المتحدة الأميركية عقب احتلال العراق عام 2003 إلى التخطيط لبناء نموذج ديمقراطي على حدود إيران يلعب فيه الشيعة دورا رئيسيا، على اعتبار أن هذا النموذج الديمقراطي سيشكل مع الوقت تأثيرا ضاغطا على النموذج الاستبدادي الإيراني.
وقد أدركت إيران بسرعة النوايا الأميركية، فعملت عبر أدواتها الشيعية والسنية -على طريقة كل من الاثنين- في إغراق العراق في دوامة من العنف الطائفي الأهوج، مما أضاع التجربة الديمقراطية العراقية الناشئة، وعمق الانقسام المذهبي، وسمح بتعاظم النفوذ الإيراني في العراق، مما أجبر أميركا على التخلي عن خطتها الأولى والتنسيق مع الإيرانيين لتقاسم النفوذ في العراق المثخن بالانقسام والاحتراب الأهلي.
واليوم تستعيد إيران ووكلاؤها بشكل يائس الخبرة السابقة في العراق لمواجهة الربيع العربي، حيث تعتمد نفس الآليات السابقة: تدمير الأوطان، وتخريب النسيج المجتمعي، وصناعة الإرهاب بطرق احترافية، وعقد تفاهمات سرية من وراء ظهور الشعوب. كل ذلك من أجل المصالح الإيرانية وفي مقدمتها حماية النموذج الاستبدادي.
تريد إيران من حروبها ضد الربيع العربي تحقيق جملة أهداف منها:
– إلهاء الشعب الإيراني بالتحديات والحروب الخارجية، وتجييشه خلف شعارات طائفية وقومية تنسيه المطالبة بالإصلاح السياسي الداخلي.
– تأخير حركة الربيع العربي، وإبراز كلفة التغيير الديمقراطي، والتأكيد على استعداد النظام للقتال حتى آخر رمق.
وهي التدابير التي من شأنها التأثير على الربيع الإيراني المختمر منذ العام 2009. وهو ما يعطي مصداقية لما يذهب إليه الدكتور محمد الموسوي عندما قال “لا يمكن أن نرى نتائج ملموسة لعملية الحراك السياسي في العالم العربي دون حدوث الربيع الإيراني.. دون تغيير في إيران لن يكون هناك نتاج ناضج للعمل الثوري العربي الحالي، وعلى القوى الديمقراطية والتقدمية أن تدرك ذلك”.
تتميز إيران منذ القدم بقدرة هائلة على النزال، وبخبرة مثيرة للإعجاب في المناورة والتفاوض، لكنها تعجز باستمرار عن فهم التحولات التاريخية الكبرى واستشراف مساراتها ومآلاتها، وتعامل الدولة الساسانية مع ظهور الإسلام معبر عن هذا المعنى.
سيد أعمر ولد شيخنا
موقع الجزيرة نت