في أقل من أسبوعين، شهدت إيران حدثين على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية في دلالتهما، كان محورهما المرشد الأعلى للنظام آية الله علي خامنئي. تمثَّل الأول في استقباله وفداً رفيع المستوى من قيادة حركة حماس الفلسطينية، وتسلّمه رسالة من رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية. أمَّا الثاني استقباله وفداً من المكتب السياسي لجماعة أنصار الله الحوثية، وأيضاً تسلُّمه رسالة من زعيمها عبد الملك الحوثي.
في المشهد، حرص خامنئي ومعه التلفزيون الرسمي على إظهار نفسه وهو يتسلم هاتين الرسالتين وإظهار صورته وهو يقرأ ما جاء فيهما، مقارنةً برفضه تسلُّم رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي حملها رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي خلال زيارته التاريخية لإيران قبل نحو شهرين، وقد خرق التلفزيون الإيراني البروتوكول المُعتمد في التعامل مع اللقاءات الرسمية لخامنئي بأن عَمِدَ إلى بث كلام المرشد الذي رفض تسلُّم الرسالة وإعلان موقفه من رسالة ترمب وشخصه، على خلاف العادة في نقل البيان الرسمي الصادر عن مكتبه حول أي من اللقاءات والمواقف التي تصدر عنه.
تزامنت هذه الخطوة مع إشارات بدأت تصدر بوضوح عن الرئيس الإيراني حسن روحاني عن تقدم جدي على خط المفاوضات التي تخوضها حكومته مع الدول الأوروبية عبر البوابة الفرنسيَّة، وقد وصلت به درجة الاطمئنان بنتيجة هذه المفاوضات أن أطلق وعوداً بحصول تطورات إيجابية في الأيام القليلة المقبلة. والحديث عن إصرار بلاده للإبقاء على باب التفاوض مفتوحاً مع الإدارة الأميركية، إلا أنه وضعها في إطار “خطوة مقابل خطوة” أي أن إيران على استعداد للعودة عن الخطوات التي قامت بها فيما يتعلق بتقليص التزاماتها بالاتفاق النووي وتخصيب اليورانيوم مقابل تراجع واشنطن عن بعض العقوبات التي فرضتها على النظام، خصوصاً ما يتعلق بالعقوبات التي تطال قطاع النفط.
قد لا تكون استقبالات خامنئي لجماعات حماس والحوثي محاولة منه لضرب المسار الدبلوماسي الذي تقوده إدارة روحاني مع الجانب الأوروبي، أو أن تكون الهدف التنصل من أي تفاهم قد تنتهي إليه الجهود التي تُبذل في هذا الإطار حتى ولو أدى إلى فتح الطريق أمام حوار مباشر مع الإدارة الأميركية، خصوصا أن روحاني وإدارته غير قادرين على اتخاذ أي خطوة في هذا الإطار بعيداً عن موقف ورأي المرشد الذي يملك القرار النهائي فيما يتعلق بالمواقف والسياسات الاستراتيجية التي تمس المصالح والأمن القوميين لإيران ونظامها.
من هنا يمكن القول إن هذه الاستقبالات تصب في إطار كشف العلاقة المباشرة لطهران بهاتين الساحتين الأساسيتين على المستوى الإقليمي، إلى جانب الساحات الأخرى، خصوصاً أن طهران وحكومة روحاني ورأس دبلوماسيتها محمد جواد ظريف حرصوا على تأكيد عدم علاقتهم المباشرة بالساحة اليمنية وتبني جماعة الحوثي مباشرة وعلانية، وسعت إلى تأكيد موقفها المؤيد مطالب هذه الجماعة في اليمن السياسية، ونفي أي علاقة أو دعم عسكري أو مالي لها من جانب طهران. في حين أن استقبال وفد “حماس” وعلى هذا المستوى الرفيع يأتي بعد أن سبق لطهران أن امتنعت في السابق عن اتخاذ هذه الخطوة ما لم تعمد هذه الحركة إلى تصحيح موقفها من النظام السوري، وبعد أن اعتبرت أن عودة حماس إلى طهران لن تكون إلا من البوابة السورية، إلا أنها لم توقف الدعم لهذه الحركة في أصعب الظروف خصوصاً بعد الإطاحة بنظام الإخوان المسلمين في مصر ورئيسه محمد مرسي، حيث اعتمدت سياسة ميّزت بين الجناح العسكري داخل قطاع غزة الذي يرتبط مباشرة بفيلق القدس والجناح السياسي خارج القطاع الذي يعتبر الجهة التي تتحمل مسؤولية تراجع العلاقة مع طهران ودمشق لحساب المحور المصري التركي، وقد شكّلت عملية التغيير التي شهدتها حماس على مستوى المكتب السياسي وخروج رأسه خالد مشعل من المشهد بمساعدة قطريَّة بداية المسار الجدي لترميم هذه العلاقة.
وعليه فإن عودة طهران لوضع ورقتيها اليمنية والفلسطينية على طاولة اللعب مع واشنطن يهدف إلى إعادة تصويب مسار الصراع مع الإدارة الأميركية، ومحاولة لقطع الطريق على أي محاولة أميركية لممارسة أي ضغوط على النظام الإيراني لفرض تنازلات في هذين الملفين وإجباره على تمرير تسوية سياسية تطمح إليها واشنطن على حساب المصالح الإيرانية، لذلك فإن زيارة وفدي حماس والحوثيين إلى طهران حمل رسالة إيرانية واضحة بأن النظام وعلى رأسه المرشد ما زالا يملكان أوراقا للتفاوض لا تقتصر على الملف النووي والبرنامج الصاروخي، وأن المساعي التي قد تبذلها واشنطن لتمرير أي صفقة أو تسوية فيما يتعلق بالأزمة الفلسطينية لن يكون على حساب دور ونفوذ النظام الإيراني في هذا الملف، وأنه على استعداد وقادر على إفشال هذه المساعي من خلال تحريك الفصائل التي تشكل أذرعه الفلسطينية، وصولا إلى إمكانية فتح جبهة عسكرية.
وعلى الخط اليمني، فإن دخول المرشد المباشر على هذا الخط قد يصب في إطار لجم الليونة التي بدأت مؤشراتها تظهر في المواقف الصادرة عن الرئيس روحاني ووزير الخارجية ظريف وبعض المسؤولين التي تتحدث عن ضرورة فتح باب الحوار مع دول الجوار الخليجي خصوصاً السعودية، وإمكانية أن ينتهي هذا المسار إلى إمكانية أن تقوم الحكومة بتقديم تنازلات لا تقف عند الاستجابة للضغوط الأميركية، بل أن تتوسع لتصل إلى تراجع أمام المطالب السعودية وشروطها ورؤيتها لآليات الحل في اليمن.
وتكشف هذه الزيارات عن مكامن الخوف الإيراني من أن يشكل هذين الملفين نقاط ضعف أساسية في مواجهة الضغوط الأميركية لتحجيم الدور والنفوذ الإيراني الإقليمي، وتتزامن مع شعور لدى النظام في طهران بأنه استطاع إحكام قبضته على الساحتين اللبنانية والعراقية وارتياحه لآلية التعامل والتنسيق القائمة مع الجانب الروسي والنظام في دمشق حول مستقبل وجوده في سوريا، وعليه فإن الضرورات باتت تحتم على النظام أن يؤكد لواشنطن والدول الإقليمية المعنية بأنه ما زال يملك النفوذ الفاعل على الساحتين اليمنية والفلسطينية وأي تسوية أو حل لهاتين الأزمتين يجب أن يمر عبر الحوار مع طهران وبشكل مباشر.
اندبندت العربي