بعدما حدث خلال الأسابيع الماضية، ابتداء من الأمر الديواني الذي أصدره رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي في الأول من تموز/ يوليو 2019، ثم التفجيرات المتتالية التي وقعت في معسكرات الحشد الشعبي، وانتهاء بصدور اول بيان رسمي عن وزارة الخارجية العراقية يتهم فيها صراحة «العدو الصهيوني: بالمسؤولية عن التفجيرات التي تعرضت لها معسكرات تابعة للحشد الشعبي، يبدو واضحا أن السؤال الذي يحاول الجميع التهرب منه، والسكوت عنه، والمتعلق بوضع الحشد الشعبي ومستقبله في العراق، فرض على الجميع هذه المرة!
لقد كان ثمة تواطؤ جماعي للفاعلين الشيعة، وعلى جميع المستويات، في السلطة وخارجها، على منع مناقشة موضوع الحشد الشعبي بطريقة عقلانية، منذ فتوى «الجهاد الكفائي» التي أطلقها المرجع الأعلى السيد علي السيستاني في 13 حزيران 2014 والتي دعا فيها إلى التطوع في الأجهزة الأمنية، والتي استخدمت بشكل واضح من أجل «شرعنة» وجود مسبق للفصائل العقائدية المسلحة وتكريس وجودها. وذلك عبر اعتماد طرق الابتزاز والتخوين وفرض الإرادات.
ان مأساة سقوط الموصل، وما تبعها من التساقط التراجيدي للمدن والمحافظات العراقية دون أي قتال، كانت تستدعي موقفا وطنيا موحدا لمواجهة هذا التداعي الخطير، ولكن الفاعلين «الشيعة»، وجدوا في تنظيم داعش تهديدا حقيقيا لوجودهم نفسه، وليس مجرد تهديد للدولة العراقية، لذلك أصروا على احتكار قرار المواجهة، ولم يسعوا إلى إشراك الآخرين معه في هذا القرار، ولم ينتبهوا إلى ان هذا الاحتكار المنهجي للدولة، ومحاولة فرض هوية أحادية عليها، كان سببا رئيسيا في استفحال ظاهرة تنظيم الدولة منذ البداية.
منذ اللحظة الأولى «لشرعنة» الفصائل الشيعية المسلحة من خلال الفتوى، ثم من خلال الأوامر الديوانية، غير الدستورية وغير القانونية، التي أصدرها رئيس مجلس الوزراء الأسبق نوري المالكي، وبسبب من «صمت» السيد السيستاني عن هذا «الاستخدام» لفتواه بعيدا عن منطوقها، اجتمع الفاعلون الشيعة على تجاهل مواجهة الإشكاليات الجوهرية التي تتعلق ببنية هذه الفصائل المسلحة وطبيعتها وهويتها ومرجعياتها، وهي بنية لا تلتقي ابدا مع منطق الدولة، واكتفت بتكرار عبارة شكلية أصبحت شعارا لاحقا، هي ان هذه المجاميع تتبع القائد العام للقوات المسلحة!
وقد انتبه الامريكيون في البداية على هذه المعضلة، التي كرست الانقسام المجتمعي، والسياسي، فعملوا على إقناع الفاعل السياسي الشيعي، بأن فكرة الحشد الشعبي «الشيعي» لا يمكن أن يحتملها العراق الهش أمنيا واجتماعيا أصلا، ولا يمكن ان يشكل قاعدة متفقا عليها لمواجهة داعش، بالتالي لا بد من الذهاب إلى فكرة أكثر «تمثيلا» في هذه المواجهة، عبر تشكيل «الحرس الوطني»؛ حيث اعتقد الامريكيون أن تشكيل قوة محلية، بقيادات محلية، ضرورية لمعالجة ازمة الثقة القائمة بين جمهور المحافظات الخاضعة لسيطرة داعش، وبين الحكومة العراقية والقوات العسكرية والأمنية التابعة لها. وقد تضمن البرنامج الحكومي لحكومة الدكتور حيدر العبادي التي تشكلت في بداية أيلول/ سبتمبر 2014 ملامح من هذه الفكرة، عندما تحدث عن «تطوير تجربة الحشد الشعبي والعمل على جعلها ذات بعد وطني مقنن يخدم عملية المصالحة الوطنية، وذلك بتشكيل «منظومة الحرس الوطني» من أبناء كل محافظة كقوة رديفة للجيش والشرطة لها مهام محددة، ومستوى تسليح محدد». وتبين ذلك في النسخة الأولى لمشروع قانون «الحرس الوطني» التي تم تداولها نهاية شهر أيلول/ سبتمبر 2014. ولكن تطورات الموقف على الأرض، تحديدا فيما يتعلق بتحول داعش من خطر محلي في العراق وسوريا، إلى خطر دولي، وحاجة الأمريكان إلى شريك «جاهز» أدى إلى تراجع الأمريكيين عن هذه الفكرة، مفضلين التعامل مع «الحشد الشعبي»، و«قوات سوريا الديمقراطية» لاحقا في سوريا، دون أن يهتموا، كالعادة، لما يمكن أن تشكله هذه التنظيمات مستقبلا من إشكاليات حقيقية يمكن لها أن تزيد من هشاشة الوضع في هاتين الدولتين أصلا! وهذا التراجع الامريكي أتاح للفاعل السياسي الشيعي التنصل عن الفكرة في النهاية، ومراجعة النسخة الثانية من مشروع القانون التي تم تداولها بداية عام 2015، أظهرت بوضوح الحرص على إفراغ مشروع الحرس الوطني من محتواه، ليتحول القانون إلى مجرد نص آخر يعطي مزيدا من الشرعية للحشد الشعبي، الذي كان يعمل من دون أي إطار قانوني حينها!
الحشد الشعبي يشكل الخطر الحقيقي على الدولة العراقية، وأنه من غير مواجهة سؤال الحشد بعقلانية وبعد نظر بعيدا عن التحيزات الطائفية، فلن نتخلص من وصفة الخراب التي شارك فيها الجميع
وهكذا، وبدلا من إنتاج مؤسسة عسكرية «ذات بعد وطني»، كما أشار البرنامج الحكومي، أبقى الفاعلون الشيعة على «مؤسسة عقائدية شيعية» مسلحة بكل أنواع الأسلحة، باستثناء السلاح الجوي، وذات بنية موازية للقوات المسلحة، مع محاولة تسويق دعاية أن الحشد الشعبي يضم جميع مكونات المجتمع العراقي، عبر ما يسمى بالحشد العشائري «السني»، الذي لا يشكل قوة عسكرية حقيقية، لا بنية ولا تسليحا، ولا طبيعة واجبات! فالحشد العشائري مجرد مجموعات صغيرة، مفككة، ذات تسليح خفيف، وبعض السلاح المتوسط في أفضل الأحوال، وتجهيزات محدودة، وذات واجبات تتعلق بالحماية الذاتية لمناطقها بشكل أساسي! ومن أجل مزيد من الايهام، تم تشكيل لواء مسيحي ولواء يزيدي، بالبنية والتسليح والواجبات نفسها التي يمتلكها الحشد العشائري.
وحين انتبه الأمريكيون، في مرحلة لاحقة، وبعد الانتهاكات المنهجية التي ارتكبها الحشد الشعبي، إلى تأثير ذلك على المواجهة مع داعش، فلجأوا في تصريحاتهم، إلى التصريح بضرورة التمييز بين نوعين من الحشد، حشد جيد يمكن التعاطي معه، وحشد سيئ مرتبط بإيران لا يمكن التعاطي معه، وقد سمعنا هذا التمييز بشكل صريح في اللقاءات الرسمية لمسؤولين أمريكيين رفيعي المستوى.
ونستطيع اليوم أن نلمس محاولة عراقية أيضا على مستوى الشارع وكتابات المثقفين والإعلاميين ومنصات التواصل الاجتماعي، للتمييز بين نوعين من الحشد، الحشد «الإيراني»، والحشد «العراقي»، والمعيار الوحيد لهذا التمييز كما يبدو هو العلاقة مع الدولة! ويجادل البعض بان التمييز التقليدي بين «الحشد الولائي» (أي الذي يؤمن بمبدأ ولاية الفقيه)، وبين «الحشد غير الولائي» لم تعد عملية، ذلك ان بعض الحشود الولائية التي استطاعت خلال سنوات الحرب على داعش، ومن خلال الموارد الرسمية وغير الرسمية، والقانونية وغير القانونية، أن تتحول إلى كارتلات سياسية مالية وتجارية واقتصادية، لا يمكن بأي حال أن تتخلى عن ذلك كله من اجل ولائها! ومن الواضح أن هكذا تمييزات، تظل عاجزة عن التعاطي مع حقيقة أساسية، وهي ان الحشد الشعبي، بوصفة بنية عسكرية موازية للمؤسسة العسكرية الرسمية، وبوصفه خارج البنية البيروقراطية للدولة، يشكل في النهاية خطرا على الدولة نفسها، وبالتالي لا يمكن التعويل على «العلاقة الجيدة» بينه وبين الدولة حاليا لشرعنته سياسيا، ذلك أن متغيرا ما قد يطيح بهذه العلاقة الجيدة المفترضة، فاذا كانت علاقة «سرايا السلام» حاليا هي علاقة «توافق» مع من يمثل الدولة اليوم، فهذا لا ينطبق على سنوات 2003 ـ 2008 حين انتهى الخلاف مع الدولة الى مواجهة عسكرية حقيقية. ولا يمكن أيضا ان نعول على تصنيف بعض فصائل هذا الحشد كونها جيدة دون النظر إلى الإشكالية الطائفية التي ينطوي عليها «الحشد الشعبي»، وما أنتجه من حساسيات سياسية واجتماعية، قابلة للتحول إلى عنصر تفجير في أي لحظة؛ فتواجد سرايا السلام في مدينة سامراء مثلا لا يمكن له إلا أن يثير حساسيات طائفية حقيقية، وجدية، لاسيما مع الاعداد الكبيرة للمختفين قسرا في المدينة وضواحيها، ومع تحول السيطرة العسكرية لهذه الفصائل إلى استثمار سياسي واقتصادي!
ثمة تمييز ترفعه «الحشود الولائية» صاخبا وصريحا، وهو التمييز بين قواتها العاملة ضمن الحشد الشعبي، وقواتها العاملة في إطار «المقاومة الإسلامية»، في محاولة للتحايل على طبيعتها المزدوجة (قوات رسمية وغير رسمية)، وولائها المزدوج (عراقيا وايرانيا)، ونطاق عملها المزدوج (وطنيا وعابرا للحدود من خلال المشاركة في القتال في سوريا)، مع صمت وتواطؤ صريح للفاعل السياسي الشيعي المهيمن على قرار الدولة عن مع هذه الازدواجية! هكذا نجد احد أبرز المتبنين لهذه الازدواجيات، يصاحب رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي في زيارته لمعسكر الصقر بعد التفجير الذي تعرض له بصفته قائدا في الحشد الشعبي، وهو الشخص نفسه الذي يظهر، بعد ذلك، في لقاء تلفزيوني يتحدث باسم المقاومة الإسلامية عن وقوفهم مع ايران في أية مواجهة مع الولايات المتحدة الامريكية!
منذ العام 2014 ونحن نكتب ونقول إن الحشد الشعبي يشكل الخطر الحقيقي على الدولة العراقية، وانه من غير مواجهة سؤال الحشد بعقلانية وبعد نظر بعيدا عن التحيزات الطائفية، فلن نتخلص من وصفة الخراب التي شارك فيها الجميع!
القدس العربي