أفول نفوذ جون بولتون في إدارة ترامب

أفول نفوذ جون بولتون في إدارة ترامب

مر نحو 17 شهراً على استلام جون بولتون منصب مستشار البيت الأبيض للأمن القومي، وبدأت تظهر مؤشرات على تراجع نفوذه وتهميشه في دائرة الرئيس دونالد ترامب، وفي صناعة قرارات السياسة الخارجية الأميركية. هذا لا يعني نهاية تأثير أبرز صقور الإدارة على بعض الملفات المعنية بالشرق الأوسط، لا سيما أنه يتعايش حتى الآن مع محاولات إضعاف نفوذه، ويبدو أنه ليس في وارد الاستقالة تعبيراً عن اعتراض، فيما لا يرى ترامب ضرورة ملحة لإقالته مع بداية موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية.

في كل القضايا الرئيسية البارزة على طاولة البيت الأبيض، مواقف بولتون والمحافظين لا تؤخذ دائماً بعين الاعتبار. وفيما تناقش إدارة ترامب الانسحاب من أفغانستان، إذا نجح الاتفاق المبدئي مع حركة “طالبان”، فقد كان هناك تغييب متعمد لبولتون عن هذه الاجتماعات، لأن ترامب يدرك موقفه المعارض لهذه المقاربة حيال أفغانستان. هذا التهميش يشمل أيضاً كوريا الشمالية، حيث يرفض ترامب رغبة بولتون التشدد في الرد على تجارب بيونغ يانغ للصواريخ الباليستية. وطبعاً يتجاوز ترامب مستشاره للأمن القومي في ما يخص احتمال إطلاق حوار مع الرئيس الإيراني حسن روحاني. كما أغلق الرئيس الأميركي أفق مغامرة المحافظين في كراكاس.


لم يُدع بولتون لحضور الاجتماع حول الاتفاق الأميركي مع طالبان


بعد “شهر العسل” بين ترامب وبولتون، الذي كانت ذروته انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي مع إيران في مايو/أيار 2018، بدأت شخصية بولتون الصعبة تتصادم مع زملائه في إدارة ترامب، نظراً لعدم قدرته على دفع أجندته السياسية. صحيفة “واشنطن بوست” ذكرت أخيراً أن بولتون طلب نسخة من الاتفاق الذي ستوقعه إدارة ترامب مع “طالبان”، لكن الممثل الأميركي الخاص إلى أفغانستان زلماي خليل زاد، الذي يقود هذه المفاوضات، رفض الطلب، واقترح أن يقرأ بولتون نص الاتفاقية بحضور مسؤول آخر، ما قد يعكس قلق خليل زاد من تسريب بولتون، أو فريقه، مسودة الاتفاق إلى الإعلام في محاولة لإجهاضه.

كما لم يّدع بولتون لحضور الاجتماع حول الاتفاق الأميركي مع “طالبان”، الذي ترأسه ترامب في منتجع الغولف في ولاية نيوجيرسي، في 16 أغسطس/آب الماضي، بحضور وزير الدفاع مارك أسبر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد، ونائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جينا هاسبل وخليل زاد. في النهاية ضغط بولتون، وتمكن من حضور الاجتماع، وناقض الرئيس حول جدوى عقد اتفاق مع “طالبان”، لكن ترامب حسم أمره في قرار تهيئة الظروف لانسحاب أميركي من أفغانستان.

هذا التهميش لبولتون تراكم خلال الأشهر الماضية بعدما تعاظم نفوذه، لا سيما إثر تسريب مستشار الأمن القومي، على الأرجح، في مايو/أيار الماضي، أن البيت الأبيض يفكر بإرسال 120 ألف جندي أميركي إلى الشرق الأوسط إذا اعتدى النظام الإيراني على القوات الأميركية أو سرّع أنشطة برنامجه النووي. مع أن بولتون رافق ترامب إلى أعمال قمة مجموعة السبع في بياريتز الفرنسية الشهر الماضي، لكن الرئيس الأميركي تجاهل مستشاره للأمن القومي، وتفاعل مع الطلب الفرنسي بإجراء محادثات مع طهران، واضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الاستماتة وإجراء اتصالات متكررة لمحاولة التواصل مع ترامب لإيقاف أي لقاء مع الإيرانيين، كما كشف موقع “أكسيوس” الإخباري. ترامب كرر على هامش هذه القمة أن إدارته لا ترغب بتغيير النظام، وتراجع عن اللائحة الطويلة من المطالب التي وضعها المحافظون في إدارته، واختصر الملفات الشائكة مع إيران بتعديل الاتفاق النووي والاتفاق على الصواريخ الباليستية. كما نشر ترامب، في تغريدة، صورة حصرية وسرية يبدو أنها من الاستخبارات الأميركية، وبالتالي كشف قدرات التجسس الأميركية، فقط ليطمئن طهران أن واشنطن ليست متورطة في الانفجار الذي حصل خلال إطلاق صاروخ “سفير”، الذي يحمل قمراً صناعياً من موقع سمنان في إيران.

كان هناك أيضاً إجهاض لخطة حليف بولتون، مبعوث وزارة الخارجية الأميركية إلى فنزويلا إليوت أبرامز، وهي في حالة موت سريري، وما يمنع طوي صفحتها هو حاجة ترامب لأصوات الجاليتين الفنزويلية والكوبية في ولاية فلوريدا المحورية خلال الانتخابات الرئاسية العام المقبل. بعد أشهر من محاولات فرض العزلة، العقوبات، والتلويح بالعمل العسكري، وصل الأمر بأبرامز إلى أن يقترح، الأسبوع الماضي، على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو العفو مقابل “خروج بطريقة كريمة” من الرئاسة، حيث قال لمادورو، في تصريح، “لا نريد الادعاء عليك. نريد منك أن تترك السلطة”. وفي المقابل، بدأت محادثات سرية بين البيت الأبيض وحكومة مادورو “على مستوى عالٍ جداً”، بحسب ما قاله ترامب الأسبوع الماضي، في تصريح يتعارض مع ما يقوله مستشاروه عن فنزويلا. هذا الحوار المباشر مع مادورو وحركة “طالبان” يساعد على إخراج السياسة الأميركية من التخبط في هذين البلدين، لكنه يتجاوز حلفاء واشنطن، أي المعارضة الفنزويلية والحكومة الأفغانية ويضعف قدراتهما التفاوضية.


تجاهل ترامب مستشاره للأمن القومي وتفاعل مع الطلب الفرنسي بإجراء محادثات مع طهران


الرئيس الأميركي أبعد أيضاً مستشاره للأمن القومي عن كل المحادثات الأميركية مع كوريا الشمالية. وصرح ترامب، في مؤتمر صحافي، بأن تجارب الصواريخ الباليستية اقصيرة المدى التي تجريها بيونغ يانغ أمر عادي تقوم به “بلدان كثيرة”، وبالتالي عارض علناً موقف بولتون الذي يعتبر أن هذه التجارب انتهاك لقرارات الأمم المتحدة. وقد أبعد ترامب بولتون عن كل المحادثات الثنائية، بعدما أغضب بيونغ يانغ عندما قارن كوريا الشمالية بالنموذج الليبي فيما يتعلق بالتخلص من برنامجها النووي في مايو 2018.

وفيما يتعلق بخطة السلام الفلسطينية-الإسرائيلية هناك تهميش مستمر لبولتون، وكل من يتولى منصب مستشار الأمن القومي، في ظل إحكام صهر الرئيس ومستشاره جاريد كوشنر على كل تفاصيل هذا الملف. كل هذا يؤثر على نفوذ بولتون واعتباره بوابة العبور إلى ترامب، بحيث يتجاهل معظم قادة العالم مستشار البيت الأبيض للأمن القومي نظراً لتشدد مواقفه، ويفتحون خطوطاً مباشرة مع الرئيس. هذا التعارض الدائم بين ترامب وبولتون يُربك حلفاء واشنطن، مثل بيلاروسيا، حول ما هي فعلاً سياسات أميركا الخارجية ومن يرسمها. كما تحدثت صحيفة “نيويورك تايمز” عن غياب الكيمياء بين ترامب وبولتون، وهذا العامل رئيسي في العلاقة اليومية التي تجمع الرئيس بمستشاره للأمن القومي، الذي يكون عادة المنسق الرئيسي للسياسة الخارجية الأميركية بين كل الوزارات والوكالات المعنية في الحكومة الفدرالية.

لكن في مقابل هذا التهميش، يملك بولتون هامشاً كبيراً في بعض القضايا لدفع أجندته التي حلم بها منذ عقود، وهذا هو الدافع الرئيسي الذي يبقيه في هذا المنصب. تمكن بولتون، منذ العام الماضي، من وقف التمويل الأميركي لمنظمات رئيسية في الأمم المتحدة، وأخرج واشنطن من معاهدات دولية بارزة اعتبر أنها تضع ضوابط على السيادة الأميركية، كما أنه نقطة اتصال إدارة ترامب مع موسكو. وفرض بولتون أيضاً إيقاع سياسة “أقصى ضغط” دبلوماسي واقتصادي على طهران، ويدفع أجندة الضغط على “حزب الله” عبر العقوبات، ويحاول تعديل ثوابت السياسة الأميركية في لبنان والعراق، لكن حتى الآن فيتو البنتاغون يحول دون تغيير جذري في السياسة الأميركية في هذين البلدين. كما كان هناك دور لبولتون في إفشال محادثات ترامب الأخيرة مع كوريا الشمالية في هانوي، عبر الإصرار على أن لا حل مقبولا من دون نزع جزئي للسلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية. كما يسعى لتوسيع النفوذ الأميركي في أوروبا الشرقية، ما يثير حفيظة الكرملين. بولتون سيبقى ما دام قادراً على دفع جزء من أجندته، غير أن خروجه من البيت الأبيض أصبح محتوماً في منصب حساس تغير أكثر من مرة في ولاية ترامب. لكن مسألة الخروج هذه تعتمد على عامل الوقت، وعلى سلوك بولتون في المرحلة المقبلة، وعلى مدى رغبة الرئيس باستيعابه.

العربي الجديد