بعد بدء تسيير الدوريات التركية – الأمريكية المشتركة شمال سوريا، بات واضحاً ان واشنطن تعيد سيناريو منبج نفسه مع أنقرة، مماطلةً وتسويفاً، يهدفان لتمييع المطالب التركية بالسيطرة على «منطقة آمنة « في حدودها الجنوبية، مقابل إجراءات شكلية من باب الترضية، كـ»الدوريات المشتركة» وربما «نقاط مراقبة» معزولة مستقبلاً.
هذا المسار المتعرج في العلاقات بين أنقرة وواشنطن، استغله بوتين على أكمل وجه، ودفع باردوغان، الذي يعاني أصلاً من واشنطن، للقبول، وإن على مضض، بالسياسات الروسية في منطقتين، ادلب وشمال روسيا.
ويرى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن السيطرة على إدلب آيلة إلى نظام بشار الأسد، وأن دمشق هي الحل لأزمة الحدود التركية، لكنه يلعب لعبة طويلة مع أدوغان. فما كان مُستغرباً ومُخالفاً للتوقعات، أصبح اليوم رهاناً قوياً، هذا ما تبدو عليه علاقة روسيا وتركيا التي تعمَقت بسرعة في السنوات الأخيرة، وكانت سوريا عاملَ جذب وإغراء استعملته روسيا – بوتين لاستمالة تركيا وترويض لاردوغان.
ربما لم يتوقع كثيرون أن الغزل التركي – الروسي سيستمر، خاصة مع تعقيدات الصراع السوري وتعارض مساريهما، على الأقل في إدلب، لكن حتى الآن صمدت العلاقة لا بل تحسّنت أكثر، فالتورط العسكري الروسي في الحرب السورية، وفقاً لتقديرات مراقبين، وإسقاط تركيا لمقاتلة روسية بعد ذلك في خريف العام 2015 كانتا نقطتيَ التحول الحاسمتين. فمع التدخّل العسكري الروسي، تلاشت فكرة تغيير النظام في دمشق أكثر فأكثر، ومع إسقاط المقاتلة الروسية، أخرجت تركيا من المشهد السوري. وفي هذا الخضم، تخلى الغرب عن فكرة تغيير النظام في سوريا، وكانت وحدات حماية الشعب الكردية تسيطر بسرعة على الأراضي وتكسب النفوذ السياسي في سوريا، ورداً على ذلك، انحازت تركيا إلى الروس وسوّت علاقاتها معها، بل واعتمدت عليها في وقف التمدد الكردي في الشمال السوري.
واشنطن تعيد سيناريو منبج نفسه مماطلةً وتسويفاً مع أنقرة
وكان بوتين بارعاً في إدارة العلاقات مع اردوغان، كما لاحظ محللون، واستغلال التنافر التركي – الأمريكي بسبب الأكراد، وفي هذا السياق، قال «هنري باركي»، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، في مقال نشرته دورية «فورين بوليسي»، إنه إذا نجح اردوغان في التلاعب بواشنطن، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لعبها على أكمل وجه.
فأكثر القضايا إثارة للخلاف بينهما، وهي إدلب، حقق فيها بوتين ما أراد، على الأقل جزئياً حتى الآن، وامتص فيها غضب اردوغان، ومكَن نظام دمشق من التقدم والقضم التدريجي لمناطق فيها، وكان هذا ضد رغبة اردوغان، لكن بوتين يعرف كيف يحقق مراده من دون أن يخسر صديقه اردوغان، فمباشرة بعد أن عاد اردوغان إلى أنقرة، استأنف الروس قصفهم على إدلب.
الباحث «باركي» يعود ليختصر هذا المشهد بالقول: «بوتين يعرف بوضوح كيف يلعب ويتلاعب بالرئيس التركي، قدم له العلاج على السجادة الحمراء وسمح لاردوغان بأن يعجب بمعداته العسكرية، قبل أن يشده عليه مرة أخرى في سوريا». مضيفاً أن «اردوغان يقف بالضبط حيث يريده بوتين. إنه يعلم أن اردوغان لن يجرؤ على انتقاده، وبعد أن عزل كثيراً في واشنطن، فإن خيارات اردوغان محدودة. بدلاً من ذلك، سيستمر اردوغان وأتباعه في الحكومة وصحافته في إدانة الولايات المتحدة باعتبارها العدو الرئيسي لتركيا».
وبدا أن اردوغان مُعجب ببوتين وعروضه، وما عادت تقلقه كثيرًا التهديدات الأمريكية، وهذا ما رآه «سولي أوزيل»، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة «قادر هاس» في إسطنبول، في حديثه لصحيفة «فايننشال تايمز»: «لقد أصبحت التهديدات الأمريكية كلمات فارغة في الأساس…لقد راهنت تركيا مرة أخرى على أهميتها الإستراتيجية، في دفع هذه التهديدات، ويبدو أنها قد آتت ثمارها»، واستثمر اردوغان في هذا علاقته بترامب.
وبوتين لا يمكنه تجاهل ما يقلق اردوغان في الشمال السوري، فالمُتوقع أن «يساعده في إعادة اللاجئين في تركيا إلى سوريا»، وفقاً لفلاديمير فرولوف، الدبلوماسي الروسي السابق الذي يعمل الآن محللاً للسياسة الخارجية في موسكو، مضيفاً: «سوف يستخدم بوتين بعد ذلك التدفق العكسي للاجئين لإحراج الأوروبيين، ولا سيَما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في تقديم مساعدات إعادة الإعمار إلى الأسد»، ربما هي لعبته المفضلة ليضرب بها عصافير عدة بحجر واحد، ويستخدم فيها أوراقه في سوريا بشكل جيد. وتركيا ملتزمة بالاعتماد على روسيا في الصراع السوري لتأمين مصالحها وحماية أمنها القومي.
القدس العربي