اشتهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومجموعته الراديكالية برفضهم للاتفاق النووي، وبدا الرئيس حاسماً وهو يعتبر أن الأمر لا يخضع للنقاش وأن «أسوأ اتفاق على الإطلاق» يجب أن يمزق، ثم مضت التصريحات اليمينية إلى ما هو أبعد من ذلك، لتصل حد الحديث عن فرض التغيير السياسي الداخلي، وحد عدم استبعاد الدخول في حرب.
أخذ العالم هذه التصريحات على محمل الجد. حلفاء طهران أظهروا قلقهم، وعبروا عن دعمهم ومساندتهم لها إزاء محاولات الاستعداء، أما منافسوها وأعداؤها فلم يخفوا فرحهم وشماتتهم، وهم ينتظرون وضعاً أشبه بالاحتلال الأمريكي للعراق.
اقترح الأمريكيون في عهد ترامب عدداً من الاستراتيجيات للتعامل مع إيران، كانت إحدى تلك الاستراتيجيات هي الاحتواء والمواجهة عبر تفعيل المحور المعادي لها في المنطقة، والتنسيق معه لتحجيم تمددها، أو تمدد الأذرع المسلحة التابعة لها. كانت تلك الاستراتيجية التي تعتمد على التنسيق مع دول الخليج ممكنة نظرياً، لولا ما حدث من أزمة بين دول المنطقة.
استراتيجية أخرى كانت تدور حول التشكيك القانوني في الاتفاق النووي، والتزام الطرف الإيراني به، وهنا تم في نهاية عام 2017 تكليف بعض المشرعين الجمهوريين، بزعامة رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، بوب كوركر، بإعداد مسودة قانون تهدف لفرض عقوبات جديدة على طهران، وتعتبر منع إيران تفتيش مواقعها العسكرية المشتبه فيها بمثابة انتهاك للاتفاق النووي.
كانت تلك المسودة، وذلك الإجراء، يعتبران انتقالاً من مرحلة التنصل والتشنج إلى مرحلة التفكير الواقعي، فقد تم إقناع الرئيس الأمريكي بأن رفضه الاتفاق النووي لمجرد الرفض، أو فقط لنقض ما تم الوصول إليه مع سابقه باراك أوباما، سيكون عملاً غير مقبول دولياً، وقد تستغله إيران لإظهار الولايات المتحدة بمظهر المتهرب الذي لا يحفظ كلمته، وأن الأفضل هو إظهار التمسك بالاتفاق، مع التركيز على عدم جدية الطرف الإيراني. هكذا حاولت تلك المسودة ألا تتناقض مع الاتفاق بالتركيز على ضرورة أن تتخذ الولايات المتحدة خطوات إضافية لمنع إيران من حيازة سلاح نووي، أو صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية. الأمريكيون، حسب تلك المسودة، ملتزمون بالاتفاق لولا الأنشطة الإيرانية التي تخرقه كتطوير الصواريخ البالستية، أو الصواريخ القادرة على حمل الأقمار الصناعية، أو كمساعي شراء المواد والأجهزة والتقنيات المتعلقة بالتجارب النووية.
ظهر هنا دور الحلفاء المستفيدين من تمرير الاتفاق النووي، وهي الدول الأوروبية التي كانت تمني نفسها بفوائد الاتفاق وآثاره الاقتصادية. ظلت تلك الدول داعمة للاتفاق، خاصة عبر تركيزها على كون مجلس الأمن هو الجهة الوحيدة التي بإمكانها معاقبة إيران على سلوكها، بعد توصية من وكالة الطاقة الذرية. كان ذلك هو ما اتفق عليه فعلاً، لكن المشكلة كانت تكمن في صعوبة هذا الإجراء وتعقيداته الفنية التي ستأخذ زمناً طويلاً، قبل أن تصل مرحلة الحسم، وهو زمن قد يكون كافياً بالنسبة لإيران لاستعادة العافية الاقتصادية واكتساب القدرات النووية. لم تنتظر الولايات المتحدة الرأي الفني لوكالة الطاقة الذرية، ولا انتظرت أن ينتقل الملف لمجلس الأمن، بل اعتبرت أن المقاطعة وفرض عقوبات هما من الأسلحة التي تستطيع أن تستخدمها بدون استئذان من أحد. العقوبات الأحادية كانت مستخدمة فعلاً ومنذ وقت طويل وكانت موجعة بشكل لا ينكر، بل لعل ذلك الوجع هو الذي حفّز السياسيين الإيرانيين على الوصول لاتفاق ينهي سنوات القطيعة والحرب.
هذه المرة كانت الدبلوماسية الإيرانية تربط بين العقوبات والاتفاق النووي، معتبرة أنها عقوبات لا تستند إلى نقض الاتفاق بقدر ما تعبر عن نقض الأمريكيين له، وهو ما أوضحته إيران في شكواها الرسمية لمجلس الأمن، المكلف بمراقبة الاتفاق، والتي اعتبرت فيها أن فرض عقوبات على الحرس الثوري والبرنامج الصاروخي ينتهك الاتفاق النووي. مع ضعف الاستجابة عبّرت إيران عن شعورها بالخذلان ملوّحة هي الأخرى بإمكانية الانسحاب، وهو الأمر الذي أثار قلق حلفائها وأعدائها على حد سواء، وما جعل الأوروبيين يدعون لإعادة التفاوض كحل وسط.
ظهر دور الحلفاء المستفيدين من تمرير الاتفاق النووي، وهي الدول الأوروبية التي كانت تمني نفسها بفوائد الاتفاق وآثاره الاقتصادية
كانت إيران تستند إلى دعم كثير من الدول التي يمكن أن يضرها نقض الاتفاق، وعلى رأسها المنظومة الأوروبية التي بدت أقرب للحليف ذي المصلحة المشتركة. كان الأوروبيون يرون أن الاستمرار في سياسة العقوبات الأحادية كاستراتيجية، والاكتفاء بالضغط السياسي والاقتصادي، ليس كافياً لإنجاز أي شيء، بل قد يقود لنتائج عكسية، من قبيل ازدياد التعنت الإيراني، وهو ما قد ينعكس على سياسة طهران الخارجية، وعلى خطوها خطوات غير محسوبة تجاه مشروعها النووي.
كان ذلك المنطق مقنعاً، فعقود من الحصار والعقوبات لم تكن ناجحة في تغيير أو تليين وجهة النظر الإيرانية أو سياساتها، بل بالعكس، جعلتها أكثر إصراراً على فرض صوتها وإثبات وجودها وقوتها العسكرية. من جهة أخرى فإن تركيز هذه العقوبات على الجانب الاقتصادي كان يجعلها غير مؤثرة بشكل مباشر على المسار النووي، إلا في حالة إن كان الغرض منها هو دفع الإيرانيين للثورة. حتى لا تظهر الولايات المتحدة بمظهر الخاسر، بدأت وبشكل متسرع بإثبات وجودها عبر تسريب أنباء عن قرب ضربة عسكرية في العمق الإيراني، وهو التسريب الذي عززته عبارة الرئيس ترامب الغامضة: «كل الخيارات أمامنا مفتوحة».
اكتملت الصور التشويقية بعد إرسال حاملة الطائرات الكبرى إبراهام لينكولن إلى الخليج، بالتزامن مع إعادة انتشار صواريخ باتريوت، ومع التذكير بالقوة الأمريكية التي تفوق ما لدى الإيرانيين بنحو سبعين ضعفاً. لكن لحظات الحماس هذه لم تستمر طويلاً، حيث لم يلبث الأمريكيون أن أعلنوا فيما يشبه الاعتذار، أن تحركاتهم لم يكن مقصوداً بها تهديد أحد، وأن الحوار والعودة إلى التفاوض هو أفضل بكثير من اللجوء إلى العسكرة والحرب. أما الأسابيع الأخيرة فقد حملت مشهدين متناقضين، كان أولهما خلال قمة بياريتس- فرنسا للدول الصناعية، التي حضرها وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف. حينها رشحت أخبار تفيد بوجود مبادرة فرنسية جديدة لحل الأزمة النووية، كما رشح ما يفيد بموافقة الرئيس ترامب على إسقاط العقوبات الأمريكية، بما فيها تلك المتعلقة بتصدير النفط، وقبوله بالمنافذ والممرات المالية المقترحة من الجانب الأوروبي لتسهيل التبادل التجاري مع إيران، بشرط توقفها عن العبث بأمن المنطقة، خاصة وقف الإجراءات المؤدية لتوتير منطقة مضيق هرمز الذي استخدمته كوسيلة ضغط. لبرهة سرى جو من التفاؤل، حيث كان الرئيس الأمريكي قد أعلن خلال القمة احترامه الشعب الإيراني، وعدم ممانعته لقاء الرئيس روحاني. لكن كل ذلك لم يكن سوى المشهد الأول، أما المشهد الثاني فكان إعلان الرئيس ترامب الذي تحدث للتو عن معاناة الشعب الإيراني من الغلاء والتضخم، عن حزمة من العقوبات الحازمة الجديدة ضد إيران، وفي رد فعل متوقع لم تتأخر إيران كثيراً قبل أن تعلن بدورها عن شروعها في تخفيض التزاماتها بالاتفاق النووي.
من المؤكد حتى الآن أن الطرفين يستبعدان الدخول في حرب، ولكن ما هو مصير هذا الاتفاق؟ هل يلغى للأبد، أم تكون كل هذه الإجراءات هي مجرد وسائل ضغط من الطرفين لتعزيز مواقفهم استعداداً لمفاوضات مقبلة؟ والسؤال الأهم، على الأقل بالنسبة لدول الإقليم، هو: ماذا سيكون تأثير كل ذلك على الحالة الأمنية في المنطقة؟
القدس العربي