ربما تفعل العملات الرقمية ما فشل البنك المركزي الأميركي في تقديمه للرئيس دونالد ترمب، الذي طالب ويطالب كثيراً بالتداخل والعمل على خفض قيمة الدولار القوي مقابل العملات الرئيسة.
كان هذا التفكير يبدو غريباً قبل العام 2017، لكن المكاسب العنيفة التي حققتها العملات الرقمية، والتي قفزت قيمتها السوقية خلال عام واحد من مستوى 120 مليار دولار إلى نحو 760 مليار دولار، أثارت المخاوف حول مصير العملات الرسمية وبدأ القلق يحاصر البنوك المركزية لتصبح العملات الرقمية أكبر مصدر إزعاج لغالبية حكومات دول العالم.
وفيما تتوسع سوق العملات الرقمية بشكل مرعب بعدما ارتفع عددها من نحو 7 عملات في بداية انطلاقها قبل أكثر من 10 سنوات من الآن، ليقترب عددها في الوقت الحالي من 2500 عملة، بجانب إعلان بعض الدول والحكومات إطلاق عملات رقمية، ودخول شركات مثل “فيسبوك”، فإن المخاوف بدأت تحاصر الدولار الذي يعد العملة الأقوى عالمياً، لكن ينتظره مصير غامق مع هذا التوسع الكبير في سوق العملات الرقمية.
النظام المالي العالمي يقترب من تغييرات جذرية
ربما يشهد النظام المالي العالمي تحولاً جوهرياً في الوقت الحالي، وذلك مع اكتساب العملات الرقمية مزيدا من القوة والجاذبية بين الحكومات والبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم، وفقا لما جاء في تقرير لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
التقرير أشار إلى أنه على الرغم من أن البنوك المركزية تصدر بالفعل أحد أشكال النقود الرقمية للبنوك التجارية، فإن فكرة “رقمنة” العملات الوطنية تغيّر قواعد اللعبة بشكل تام، إذ تدرس البنوك المركزية في دول مثل السويد وكندا وسويسرا وشرق الكاريبي، وفي مقدمتهم الصين، إمكانية دمج العملات الرقمية في أنظمتها المالية. ولا يزال من غير الواضح كيفية تطبيق المنظومة الجديدة، إلا أن الآثار المترتبة عليها قد تكون ضخمة لتشمل التجارة وأسعار الفائدة والخدمات المصرفية والخصوصية الفردية.
لكن هذا الأمر يزيد من صعوبة الوضع الحالي للدولار، إذ إن نمو العملات الرقمية الوطنية، والتي تعدّ أسرع وأرخص من النقود التقليدية، يهدد بتقويض وضع الدولار باعتباره العملة المعتمدة في احتياطي البنوك المركزية. وتشير الصحيفة إلى أن هذا الأمر قد يشعل نوعا جديدا من حرب العملات، لتقف العملات الرقمية في مواجهة الدولار.
وقالت أيضا إنه على الرغم من أن هيمنة الدولار على التجارة العالمية كانت لها ما يبررها عندما كانت الولايات المتحدة تسهم بما يزيد على ربع التجارة العالمية، فإن الوضع الراهن قد اختلف مع تراجع حصة الولايات المتحدة من صادرات العالم إلى 8.8% فقط.
هل تستطيع دول العالم التخلي عن الدولار الأميركي؟
“وول ستريت جورنال” أشارت إلى أن محافظي البنوك المركزية بدأوا في إدراك هذا الواقع تدريجيا، إذ دعا محافظ بنك إنجلترا، مارك كارني، خلال اجتماع لمحافظي البنوك المركزية في جاكسون هول الشهر الماضي، إلى التخلص من الاعتماد على الدولار والتعامل بدلا منه بعملة رقمية لتكون العملة الاحتياطية للعالم، ودعا كذلك إلى إنشاء منظومة مالية متعددة الأقطاب عن طريق عملة احتياطية افتراضية مدعومة من البنوك المركزية العالمية.
وذكرت الصحيفة أن إعلان شركة “فيسبوك” عن عملتها المشفرة “ليبرا” كان بمثابة الشرارة التي دفعت صنّاع السياسات إلى التفكير في إنشاء عملات رقمية مدعومة من الدولة.
وترفض الجهات التنظيمية بشدة فكرة أن تحلّ وسائل إجراء معاملات يصدرها القطاع الخاص محل العملات التي تسيطر عليها الدول، فيما تعمل دول مجموعة السبع في الوقت الحالي وبسرعة للرد على تلك العملات الخاصة.
وظلت البنوك المركزية تبحث في تلك المسألة لعدة سنوات، ولكن بشكل أكثر حذرا من غيرها. وكان “ريكس بنك” السويدي أحد الرواد في هذا المجال، وهو الآن على وشك اختبار “الكرونا الإلكترونية” استجابة لتراجع استخدام النقد. كما أن هناك قلقا متزايدا في منطقة اليورو حول كيفية تأثير العملات الرقمية على القطاع المصرفي نظرا إلى اعتمادها على البنوك في تحويل الأموال بين المدخرين والمقترضين.
الدولار يقلص مكاسبه مع إعلان بيانات سلبية
في سوق العملات، قلّص الدولار الأميركي من مكاسبه قليلاً أمام العملات الرئيسة الأخرى خلال تعاملات أمس الاثنين، تزامناً مع تصريحات لمسؤولي بنك الاحتياطي الفيدرالي بشأن معدل الفائدة وعقب الإفصاح عن بيانات اقتصادية.
وتلقت العملة الأميركية الدعم من البيانات الاقتصادية السلبية في أوروبا، حيث أظهرت تراجع النشاط الصناعي في ألمانيا إلى أدنى مستوى في 10 سنوات خلال الشهر الحالي، كما سجّل النشاط الاقتصادي في منطقة اليورو أسوأ قراءة في 6 سنوات.
يأتي ذلك في الوقت الذي كشفت فيه بيانات مديري المشتريات الصناعية في الولايات المتحدة عن تسجيل أعلى مستوى في خمسة أشهر خلال سبتمبر (أيلول) الحالي.
لكن الورقة الأميركية الخضراء تعرضت إلى ضغوط بالتزامن مع حديث جون ويليامز، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، وجيمس بولارد رئيس الفيدرالي في ولاية سانت لويس، والذي يرى أن المركزي الأميركي بحاجة لخفض إضافي في معدلات الفائدة من أجل موازنة المخاطر الهبوطية.
ولا يزال الغموض يحيط بالعلاقات التجارية الأميركية، ففي نهاية الأسبوع الماضي صرّح الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، بأنه لا يتطلع إلى اتفاق جزئي مع الصين، أعقبه إلغاء الوفد التجاري الصيني الذي كان في زيارة للولايات المتحدة رحلته إلى المزارع الأميركية، ثم كشف تقرير أن بكين تشتري فول الصويا من واشنطن.
وخلال الأسبوع الماضي أجرى وفد تجاري صيني زيارة إلى الولايات المتحدة للتمهيد للمباحثات رفيعة المستوى التي ستتم بين الدولتين في الشهر المقبل. ومع ذلك صرح “ترمب” أيضاً بأن الولايات المتحدة تحرز تقدماً كبيراً مع الصين في الجوانب التجارية، كما أن الجانبين وصفا المفاوضات التي تمت في الأسبوع الماضي بأنها بناءة.
وارتفع الدولار أمام اليورو بنحو 0.2 بالمئة إلى 1.0995 دولار، بينما تراجع أمام الين بنسبة هامشية 0.09 بالمئة مُسجلاً 107.46 ين.
وصعدت العملة الأميركية أمام الجنيه الإسترليني بنسبة 0.4 بالمئة عند 1.2431 دولار، فيما هبطت أمام الفرنك السويسري بنحو 0.08 بالمئة عند 0.9901 فرنك.
وخلال تلك الفترة صعد مؤشر الدولار الرئيس الذي يقيس أداء العملة أمام 6 عملات رئيسة بأكثر من 0.1 بالمئة إلى 98.617، بعد أن وصل إلى 98.83 في وقت سابق من التعاملات.
تهدئة المخاوف من ركود اقتصادي وشيك
في سياق متصل، وعلى صعيد التوترات التجارية والركود المتوقع، ذكر تقرير أعدته شركة “بلاك روك”، أكبر شركة لإدارة الأصول في العالم، أن إشارات تراجع التوترات بين الولايات المتحدة والصين ساعدت في تهدئة المخاوف من الركود الاقتصادي التي سادت الأسواق في الأسابيع الأخيرة.
وخيّمت نغمة الهدوء على الساحة العالمية مع قيام الولايات المتحدة بتأجيل التعريفات الإضافية على السلع الصينية لمدة أسبوعين، كما أعلنت بكين استثناء بعض المنتجات الأميركية من قائمة الرسوم.
وتوقعت رئيسة أبحاث الاقتصاد الكلي في “بلاك روك”، إلجا بارتسش، عدم وجود أي مخاطر من حدوث ركود أميركي وشيك مع دعم السياسة الاقتصادية المستمر، وعدم وجود نقاط ضعف واضحة للنظام المالي، وإنفاق مستهلك مرن، كل هذا يساعد على استمرار النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فمن غير المرجح أن تحدث صفقة تجارية شاملة بين الولايات المتحدة والصين على المدى القريب، لذلك من المتوقع أن تؤثر التوترات التجارية على النمو وتضغط على التضخم، وهذا قد يدعو إلى اتخاذ مراكز استثمارية أكثر دفاعية.
ووفقاً للتقرير، تؤثر التوترات التجارية العالمية المتزايدة سلباً على قطاع الصناعات التحويلية في الولايات المتحدة، وينعكس هذا على نمو الناتج المحلي الإجمالي الأميركي. وأصبح إسهام الإنفاق الرأسمالي وصافي الصادرات سلبيا في نمو الناتج المحلي الأميركي خلال الربع الثاني.
بينما لا تزال وتيرة بناء المخزون في ارتفاع، حيث تتحوّط الشركات قبل زيادة التعريفات الجمركية المتوقعة، كما أن الإنفاق الاستهلاكي، الذي يشكل أكثر من ثلثي حجم الاقتصاد الأميركي، يسير بشكل جيد.
كما تعتبر ديون الرافعة المالية للأسر الأميركية محدودة، ولا توجد مؤشرات على الإنفاق المفرط على السلع مرتفعة الثمن مثل السيارات والأجهزة.
وتشبه هذه الديناميكية عامي 2015 و2016، عندما عوّض نشاط الإنفاق الاستهلاكي القوي وقطاع الخدمات انكماش الإنتاج الصناعي.
التضخم وقوة الدولار والأزمة مع الصين
مع ذلك، هناك اختلافات أساسية عن الوضع آنذاك، حيث إنه في ذلك الوقت كان هناك مزيج داعم لتباطؤ التضخم، والذي شمل الدولار الأميركي القوي وتشديد السياسة في الصين وانهيار أسعار النفط.
في حين من المرجح أن تكون الصدمة في الوقت الحالي داعمة لتسارع التضخم لأنها تنبع من التعريفات الجمركية وتعطل سلسلة التوريد. وأصبحت دفعة الحمائية التجارية هي المحرك الرئيس للاقتصاد والأسواق العالمية، حيث ساعد تصاعد التعريفات المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة في أواخر أغسطس (آب) الماضي على دفع منحنى عائد سندات الخزانة الأميركية للانعكاس (ارتفاع العوائد على المدى القصير أعلى من نظيرتها على المدى الطويل)، وهي ظاهرة كانت تسبق تاريخياً في كثير من الأحيان الركود وأثارت مخاوف المستثمرين.
وذكر التقرير أن القوى الهيكلية مثل وفرة المدخرات العالمية تعمل على خفض الفوائد طويلة الأجل، ما يجعل شكل منحنى العائد إشارة أقل موثوقية من الماضي. ولكن انتعشت عوائد السندات الأسبوع الماضي وسط إشارات على نهج أكثر هدوءاً من جانب كل من الولايات المتحدة والصين في مباحثات التجارة، ولكن لا تزال التوترات بين الدولتين قائمة على قضايا هيكلبة، ما يقلل من احتمال التوصل إلى اتفاق شامل.
وفي حالة تنفيذ جميع الرسوم الجمركية التي أعلنتها الولايات المتحدة والصين، فقد ينخفض النمو الاقتصادي الأميركي بشكل ملموس عن الاتجاه طويل الأجل في الفصول المقبلة.
هل تدعم دول العالم الاقتصاد الأميركي؟
ومن غير المرجح أن يحصل الاقتصاد الأميركي على الكثير من الدعم من بقية العالم، حيث تعاني العديد من الاقتصاديات من تداعيات التدابير الحمائية السريعة وإمكانية تصاعد التوترات التجارية.
ويعدّ تباطؤ الاقتصاد الصيني أبرز إشارة على ذلك، ومن المحتمل أن تطرح بكين إجراءات تحفيزية إضافية لتفادي مفاجآت الهبوط الكبير، لكن من غير المرجح أن يكون هناك دعم مادي للنمو. كما أن اقتصاد منطقة اليورو قد يستقر في أحسن الأحوال، حيث لا تزال ألمانيا في حالة ركود فني، ولا تزال هناك مجموعة كبيرة من المخاطر المرتبطة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت نفسه، فإن التضخم في الولايات المتحدة الأميركية على وشك التسارع، بسبب المزيد من التعريفات ونمو الأجور بشكل أسرع في مواجهة ضيق سوق العمل.
لذلك فإن حدوث مزيج من انخفاض النمو الاقتصادي وتسارع التضخم يعقّد جهود مجلس الاحتياطي الفيدرالي لتحقيق هدفه للعمالة الكاملة واستقرار الأسعار. وطرح التقرير سؤالاً حول هل يمكن استمرار دعم المستهلكين الأميركيين للنمو الاقتصادي في مواجهة الرياح المعاكسة في قطاع التصنيع وتباطؤ نمو الوظائف وزيادة التعريفات الجمركية على السلع الاستهلاكية؟
وذكر “ستكون قوة إنفاق المستهلكين في الولايات المتحدة أمراً أساسياً للنمو الاقتصادي الأميركي والعالمي. ويشير السيناريو الأساسي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي، وإن كانت التدابير التيسيرية المتوقعة قد تخفّف من هذا التباطؤ”.
في حين أن سياسة الإقبال على المخاطرة، بما في ذلك زيادة الوزن في الأسهم الأميركية والتعرض للسندات الحكومية كامتصاص لصدمات المحفظة، قد نجحت بشكل جيد حتى الآن. ومع ذلك، تهدّد التوترات التجارية بتباطؤ النمو الاقتصادي وتسارع التضخم، وهو تهديد محتمل لأسواق الأسهم والسندات، على حدّ سواء.
اندبندت العربي