في الأول من تموز/يوليو الماضي أصدر رئيس مجلس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي مرسوما بتنظيم عمل قوات ما يعرف بالحشد الشعبي ومرجعيتها العسكرية ، ويلزمها بالاندماج في القوات المسلحة النظامية، ويأمر المرسوم بدمج الوحدات شبه العسكرية في الجيش ، كما يلزم فصائل الحشد الشعبي بالاختيار بين العمل السياسي أو العسكري، كما يحدد للفصائل مهلة تنتهي في 31 من يوليو/تموز من عام 2019، للالتزام بالضوابط الجديدة، وأمر عبد المهدي أن يكون عمل قوات الحشد الشعبي جزءا لا يتجزأ من القوات المسلحة، وأن تكون تحت إمرة القائد العام وفقا للقانون الذي شرعه مجلس النواب، وأوضح المرسوم أن جميع التسميات لفصائل الحشد الشعبي في المعارك ضد تنظيم الدولة سيتم التخلي عنها نهائيا واستبدال التسميات العسكرية المعروفة بها.
وأضاف أن الفصائل التي لا تلتحق بالقوات المسلحة، يمكنها أن تتحول إلى تنظيمات سياسية، خاضعة لقانون الأحزاب، بشرط ألا تحمل السلاح إلا بإجازة رسمية، وشدد المرسوم على ضرورة تحديد معسكرات تجمع قوات الحشد الشعبي أسوة ببقية القوات المسلحة، وخضوعها لما يعرف عسكريا بنظام المعركة وفق سياقات القوات المسلحة، كما أمر عبد المهدي بغلق جميع مقرات فصائل الحشد الشعبي في المدن وخارجها بما فيها المكاتب الاقتصادية أو نقاط التفتيش التي تكون خارج الإطار الجديد، وتملك تلك الفصائل -التي ساعدت العراق وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية- نفوذا كبيرا في السياسة العراقية.
وانسجامًا مع ذلك القرار، أصدر رئيس مجلس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، في السابع عشر من الشهر الحالي، الأمر الديواني المرقم (331)، قرر فيه أولاً المصادقة على الهيكلية التنظيمية الخاصة بهيئة الحشد الشعبي، وأيضا إلغاء جميع العناوين والمناصب التي تتعارض مع العناوين الواردة في الهيكلية، كذلك منح رئيس هيئة الحشد الشعبي صلاحية التعيين بالوكالة للمناصب والمديرين في الهيئة، وعرضها على رئاسة مجلس الوزراء لغرض الموافقة من عدمها.
وقد انشغل قادة وأفراد “الحشد الشعبي” في العراق بقرار الهيكلة الجديدة التي صادق عليها رئيس الحكومة عادل عبد المهدي، في الوقت الذي يزداد التوتر بين قطبي “الحشد”، وهما رئيسه فالح الفياض، ونائبه جمال جعفر، ووصل الأمر إلى التبرؤ من تصريحات الأخير وبياناته، واعتبارها لا تمثل “الحشد”، بعد سلسلة تجاوزات طرحها في بيانات رسمية باسم “الحشد”، بينها تهديد ووعيد للقوات الأميركية في العراق.
التنظيم الجديد لـ”الحشد الشعبي”، وهو المظلة الجامعة لسبعين فصيلا عراقيا مسلحا بقوة قوامها 116 ألف شخص مسجلين كقوات ثابتة، يضاف إليهم نحو 30 ألفاً آخرين ما زال أمرهم لم يحسم حتى الآن لأسباب مالية وتنظيمية، والذي صدر رسميا هذا الأسبوع، تضمن استحداث تشكيلات جديدة، وإلغاء أخرى قديمة داخل هيئة “الحشد الشعبي”، لعل من أبرزها حصر المهام العسكرية الرئيسة لـ”الحشد”، بموافقة رئيس الوزراء نفسه، الذي يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة، بحسب الدستور العراقي الجديد النافذ في البلاد، وهو الذي يتولى تسمية رئيس “هيئة الحشد”.
كما يجب أن تختفي بعد تنفيذ هذا القرار تسميات كل الفصائل الحالية، مثل العصائب والعباس والطفوف وعاشوراء وجند المرجعية، وغيرها من التسميات، وسط غموض يلف مصير فصائل أخرى أعلنت صراحة أنها لا تخضع لقانون “الحشد”، كونها مقاومة إسلامية، ولها وجود في سورية، وستقاتل في لبنان إن تطلب الأمر، مثل كتائب حزب الله العراقية والنجباء، والخراساني والمختار الثقفي، والبدلاء وسرايا الشهداء، وفصائل أخرى ما زالت حتى الآن لم تنسحب من مناطق تسيطر عليها في العراق، وترفض دخول الجيش العراقي، مثل جرف الصخر والعويسات والعوجه، ومناطق قرب الحدود مع السعودية.
وتضم الهيكلية الجديدة 5 أقسام رئيسية، من بينها معاونية العمليات العسكرية، ومعاونية الاستخبارات، بالإضافة إلى 25 مديرية، و7 قيادات عمليات في مدن شمال وغرب ووسط العراق فقط، وخلت المنطقة الجنوبية منها، مع إلغاء منصب نائب رئيس الهيئة، الذي شغله أبو مهدي المهندس منذ بداية تأسيس “الحشد” قبل 5 سنوات، كما تم استحداث منصب أمين سر عام لـ”الحشد الشعبي”، إضافة إلى استحداث مديريات منفصلة، مثل التوجيه المعنوي، والعلاقات، والإعلام، والحرب النفسية.
أشار الخبير بالشأن العراقي عبد الله الركابي إلى أن “أبرز ما سيُسفر عن الهيكلية الجديدة هو انضباط أكثر وصخب أقل للفصائل، فالهيكلية ستنضم الصلاحيات بين قادة هيئة الحشد، وسيعرف كل قيادي مهمته وصلاحياته، لكن أعتقد أنه سيبقى أبو مهدي المهندس هو صاحب القرار الأقوى داخل هذه المؤسسة، والمتحكم بأغلب قراراتها المصيرية”، موضحاً لـ”العربي الجديد” أن “الأيام المقبلة سوف تكشف بدقة عما إذا كان المنصب الجديد هو لتحجيم المهندس أم العكس”.
ولفت الركابي إلى أن “الفصائل الموالية لإيران تبقى العقدة الأصعب، فلم تكن الفصائل المرتبطة بالنجف في يوم ما مشكلة في العراق، بل بتلك المرتبطة بالحرس الثوري، ويتوقع أن تبقى خارج منظومة هذه الهيكلية، فهي لديها عناوينها ومكاتبها السياسية والعسكرية، وحتى الاقتصادية، ومن غير المتوقع من الحكومة العراقية أن تستطيع تحجيم هذه الفصائل، لا سيما أن المهندس سوف يعطي لهذه الفصائل في الفترة المقبلة مساحة أكبر للتحرك والعمل خارج إطار المنظومة الرسمية العراقية، وتلبية مصالح إيران”.
وفي سياق الرد على القرارات الحكومية المتعلقة بالحشد الشعبي، كشفت مصادر سياسية وأخرى مقرّبة من الفصائل المحسوبة على إيران، عن مجلس تنسيقي محدود، يجمع فصائل عدة، في مؤشر على اتساع الهوة بين ميليشيات تطلق على نفسها “المقاومة الإسلامية” مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، وتلك المرتبطة بالنجف وتلتزم بقرارات الحكومة العراقية، كما قد يحمل هذا التطور مؤشرات على إمكانية أن تؤدي تلك الفصائل دوراً منفصلاً عن منظومة “الحشد الشعبي”، والقرار الرسمي للدولة العراقية ككل، في حال اندلاع صدام مسلح بين الولايات المتحدة وإيران، وسط مساعي بغداد بشكل واضح لتجنيب البلاد حالة الاصطفاف بأقصى حد ممكن، عن أي من المعسكرين الحاليين في المنطقة.
وفي محاولة من طهران في تخريب جهود بغداد للنأي عن توترات المنطقة، تتعمّد طهران تدمير جهود حكومة بغداد للنأي بالعراق عن تحمّل تبعات التصعيد الجاري في المنطقة بسبب التوتّر بين إيران من جهة، والولايات المتحدة وعدد من حلفائها الإقليميين والدوليين، من جهة مقابلة، ولم تمض أيام على قصف صاروخي لمحيط السفارة الأميركية داخل المنطقة الخضراء وسط العاصمة العراقية، وتهديد التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضدّ داعش من مغبّة تكرار مثل ذلك الاستهداف الذي يرجّح أنّ وراءه إحدى الميليشيات التابعة لإيران، حتى بادر السفير الإيراني في العراق إيرج مسجدي إلى التهديد باستهداف القوات الأميركية على الأراضي العراقية في حال تعرّضت بلاده “لأي اعتداء من قبل واشنطن”.
وردت وزارة الدفاع العراقية، الجمعة، على كلام السفير معتبرة “الأراضي العراقية خطا أحمر”، وقال المتحدث باسم الوزارة اللواء تحسين الخفاجي إنّ “العراق يرفض التهديدات التي تطلقها إيران أو أميركا”، مضيفا لقناة روسيا اليوم “العراق لن يكون منطلقا للاعتداء على إيران، كما لن يسمح بأن يتم تهديد المصالح الأميركية على أراضيه”.
وأظهر كلام السفير الإيراني، مجدّدا، حرص إيران على توريط العراق في صراعاتها ضدّ خصومها الإقليميين والدوليين، والإبقاء عليه ساحة لتصفية الحسابات ضدّ هؤلاء الخصوم، وبحسب خبراء في الشؤون الأمنية والعسكرية، فإن وجود العشرات من الميليشيات الشيعية الموالية لإيران على الأراضي العراقية يمنح طهران إمكانية خوض الصراع بالوكالة ضد الولايات المتحدة على أرض غير أرضها ودون خسائر تذكر، وهو ما تطبّقه إيران في اليمن حيث توكل لجماعة الحوثي مهمّة مواجهة السعودية والاعتداء على أراضيها واستهداف منشآتها الحيوية، دون تدخّل ميداني واضح من إيران عدا بعض المساعدات التقنية الخفية وجهود إيصال الأسلحة إلى الجماعة.
وقال مسجدي في مقابلة تلفزيونية مع قناة دجلة العراقية المحلية “الجمهورية الإسلامية لا تريد الحرب مع الأميركيين أو أي أحد”، مضيفا “هؤلاء يقولون دائما إن الخيار العسكري موجود على الطاولة، وبالمقابل لم نتحدث يوما عن أي حل عسكري، وموقفنا هو موقف دفاعي”، لكنّ السفير استدرك بالقول “سنرد على أي أحد إذا اعتدى علينا، وخيارات الدفاع عن أنفسنا مفتوحة بكل الطرق“.
وبحسب السفير، فإنّ الردّ الإيراني المحتمل على الولايات المتّحدة لا يستثني الأراضي العراقية، حيث أكّد مسجدي الذي سبق له أن شغل منصب مستشار قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني أنّ “إيران في حال تعرضها لاعتداء عسكري من الولايات المتحدة، سترد بقوة وستقصف التواجد الأميركي في العراق أو أي مكان آخر”، واعتبر السفير الإيراني خروج القوات الأميركية من العراق أو أية نقطة بالمنطقة أمرا ضروريا، معتبرا أن وجود تلك القوات يتسبب في التصعيد وعدم الاستقرار في المنطقة، وتحتفظ الولايات المتحدة ببضعة آلاف من قواتها على الأراضي العراقية، موزّعة على عدد من القواعد، أشهرها قاعدة عين الأسد بمنطقة البغدادي في محافظة الأنبار غربي العراق.
وبحسب المراقبين للشأن العراقي، فإن المجلس الجديد يضم ممثلين وقيادات في فصائل مثل كتائب حزب الله، وكتائب سيد الشهداء، والإمام علي، وعصائب أهل الحق، وحركة النجباء، وسرايا الخراساني، وحركة الابدال، وكتائب جند الإمام، وتشكيلات أخرى، وكلها ترتبط بشكل وثيق مع الحرس الثوري الإيراني وموجودة في سورية لدعم نظام بشار الأسد، كما تضع نفسها ضمن تصنيف فصائل “المقاومة الإسلامية” أو الفصائل الولائية، وأن المجلس التنسيقي هو بين تلك الفصائل دون غيرها من الجماعات المسلحة الموجودة في العراق، ولم يعلن عنه، على الرغم من عقده لقاءات عدة في بغداد خلال الفترة الماضية، ولفت المراقبون إلى أن سبعة أسماء في المجلس تعتبر بارزة، مثل الأسماء الموجودة في المجلس: أبو مهدي المهندس وقيس الخزعلي عن “العصائب”، أكرم الكعبي عن “النجباء”، أبو آلاء الولائي عن “سيد الشهداء”، أبو أكرم الماجدي عن “حركة الابدال”، علي الياسري عن “سرايا الخراساني” وغيرهم.
واعتبروا أن وجود مجلس آخر محصور بفصائل عدة لا تخفي ارتباطها بإيران، غير مجلس الرأي الموجود داخل هيئة الحشد الشعبي، يعتبر سلبياً وغير مطمئن، لأن الفصائل المرتبطة بإيران تحدّت قرارات حكومية أكثر من مرة، لناحية الانسحاب من مدن وبلدات تسيطر عليها، أو تسليم سلاحها الثقيل للجيش العراقي، والخضوع للمرسوم الوزاري القاضي بهيكلة “الحشد”، بالإضافة إلى ذلك، فإن عدم الإعلان عن المجلس التنسيقي كفيل باعتباره خرقاً وتجاوزاً للقانون خدمة لمصالح دولة جارة على حساب مصلحة العراق.
بدوره، رد مقرّب من مليشيا “النجباء” في بغداد على هذه المعلومات بالقول، إن عمل فصائل المقاومة الإسلامية في العراق لا ينحصر به، بل يمتد إلى سورية ولبنان إن تطلّب أمر “المواجهة مع العدو مساعدة الإخوة في حزب الله”، وتابع: “يمكن اعتبارها لجنة تشاورية وتنسيقية وتجمعها أهداف أوسع من فكرة الحشد الشعبي المحلية، التي تأسست من أجل طرد عصابات داعش من العراق”، ولفت إلى أن “الفصائل الإسلامية لا تعتبر لقاءاتها أو تنسيق عملها تجاوزاً أو تهديداً لاستقرار العراق”.
من جهته، رأى الخبير الأمني العراقي مؤيد الجحيشي، أن “المجلس ليس جديداً، بل موجود منذ مدة بين فصائل معينة”، وأضاف أن “غاية المجلس الأولى العمل على تهديد من يختلف مع إيران، عبر الأراضي العراقية، كالولايات المتحدة ودول الخليج، تحت شعارات الجهاد والمقاومة”.
وكشف الجحيشي أن “الفصائل ليست تنظيماً حزبياً حتى يكون لها رئيس حزب يجمعها ويوجهها، ولا تنظيماً عسكرياً حتى تكون أكبر رتبة هي التي تقودها، وحتى أبو مهدي المهندس صاحب القرار الأعلى على الفصائل، لا يملك السيطرة عليها بشكل كامل، وبالتالي فإن الوحيد الذي يملك أمراً سلطوياً على جميع الفصائل هو زعيم فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، المشرف على هذا المجلس، كما يبدو”.
في المقابل، أكد الخبير القانوني علي التميمي، أن تشكيل مجالس مماثلة مخالف للقانون والدستور، ويحق للحكومة اتخاذ إجراءات بحق المجلس ومَن شكله ويقوده، كونه خارج إطار الدولة والقانون، وقال التميمي، لـ”العربي الجديد”، إن “أية فصائل مسلحة خارجة عن القوات الأمنية هي مخالفة للدستور وغير جائزة وفق القانون والدستور، ولهذا صدر قانون الحشد الشعبي، لجعل تلك الفصائل جزءاً من القوات الأمنية العراقية”.
وأشار التميمي إلى أن “السلاح وفق الدستور ووفق قانون الأسلحة، يجب ألا يكون خارج إطار القوات المسلحة، فتشكيل أي مجلس عسكري أو هيئة عسكرية، يجب أن يحصل بقانون صادر من الحكومة، ثم يصوّت عليه البرلمان، ويصادق عليه بعدها رئيس الجمهورية”، وشدّد على أن “وجود أي مجالس عسكرية أو مسلحة تحت أي عنوان خارج إطار القوات المسلحة هو أمر غير مسموح به لا دستورياً ولا قانونياً”.
وأضاف التميمي أنه “لا يوجد في العراق أي احتلال، حتى توجد مجالس عسكرية مماثلة ترفع شعار المقاومة، فهذا الأمر كان متاحاً عند وجود القوات الأميركية، وكان العراق تحت الفصل السابع من ميثاق مجلس الأمن، لكن اليوم العراق دولة مستقلة ذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة”، وختم التميمي حديثه قائلاً إنه “يحق للحكومة وأجهزتها المختصة أن تتخذ الإجراءات القانونية ضد أي تشكيل أو ميليشيا مسلحة عسكرية، تحت أي عنوان كان: من شكّل تلك المجالس ومن يشارك فيها”.
إن القرارات الصادرة عن رئاسة الوزراء العراقي هي محاولة جادة لإعادة الاعتبار للدولة العراقية وقواتها المسلحة، فالحكومة العراقية حريصة على سلامة العراق، وعدم اسقاط تجربة حزب الله في لبنان على العراق، وعدم جعل العراق في صلب المشروع الإيراني، فعادل عبد المهدي يسعى إلى انقاذه وتجنيبه المخاطر السياسة الداخلية والخارجية، على الرغم من الجبهة المعارضة له والمتلونة من كل ألوان الطيف الطائفي والمذهبي والقومي ضده.