لا شك أن أفضل طريق عمل في نظر إيران هو إبقاء القوات العسكرية التي بعثت بها إلى هناك بأمر منها إلى سوريا على المدى البعيد، بما فيها وحدات حزب الله وغيرها من الميليشيات الشيعية ورجال الحرس الثوري وقوة القدس. إن لاستمرار التواجد العسكري الإيراني/الشيعي في سوريا أهمية استراتيجية في نظر إيران. ففوق كل شيء، ومع أن نظام بشار الأسد استقر، فبقاؤه ليس مضموناً، ومن شأن داعش أن يعود ليعرض المصالح الإيرانية في سوريا وفي العراق للخطر. وبالتالي، فإن إبقاء القوات التي تحت القيادة الإيرانية في سوريا يستهدف الحفاظ وتثبيت صلة وتعلق نظام الأسد بإيران، وذلك لمساعدة النظام على التصدي للصدمات المستقبلية المحتملة على استقراره ومنع إمكانية للمس بمكانة إيران في سوريا ومحيطها إذا ما استبدل نظام الأسد بآخر.
ثانياً، تسعى إيران لاستغلال تواجدها في سوريا لتشديد التهديد على إسرائيل، من خلال حزب الله وغيره من الميليشيات الشيعية، بتوسيع الجبهة أمام إسرائيل من لبنان إلى سوريا. من هذه الناحية، فإن الانتشار العسكري في سوريا يشكل في نظر إيران الجبهة المتقدمة أمام خصومها، بعيداً عن حدودها. وثالثاً، يعزز التواجد في سوريا النفوذ الإيراني في الجارتين أيضاً، العراق ولبنان، الهامتين لإيران، عقب السكان الشيعة الكثيرين فيهما. سوريا حلقة تربط إيران، عبر العراق، بلبنان وبالبحر المتوسط. وهذا الربط يتيح لإيران تعزيز المجال الشيعي من خلال تحسين متواصل لقدرات حزب الله العسكرية. إن الانتشار في سوريا يسمح لإيران بأن تعرض أمام العالم السني قوة شيعية متعددة القوميات، جمعت قدرة قتالية، ويمكن استخدامها أيضاً في بؤر أخرى للنظام الإيراني.
إن المفتاح لمواصلة بقاء القوات الإيرانية/الشيعية في سوريا موجود بقدر كبير في يد الأسد. فقد نجحت إيران في إبقاء قواتها في سوريا، رغم الضغوط، بدعوى أن تدخلها في سوريا جاء بناء على طلب مباشر من نظام الأسد. كما أن روسيا أيضاً أوضحت بأنه سيكون من الصعب إخراج هذه القوات طالما يرغب النظام في بقائها. وفي هذه الأثناء، يؤشر الأسد إلى أن تواجد هذه القوات مرغوب فيه ومهم. الأسد مدين لإيران، إلى جانب روسيا، باستمرار حكمه. وبدأت سوريا تجتاز عملية إعادة بناء صعبة، مركبة وطويلة، وفي هذه العملية يحتاج إلى مساعدة اقتصادية وعسكرية واسعة من إيران. ولا يزال لنظام الأسد أعداء قد يعرضونه للخطر، والتصدي لهم يتطلب دعم إيران، بما في ذلك استمرار تواجد قواتها في سوريا.
قد تأخذ إيران في الحسبان انقلاب الدولاب، فلا يزال الأسد بحاجة إليها، ولكن بقدر أقل مما كان قبل أربع- خمس سنوات، لأن الخطر الأساس على بقائه انقضى بقدر كبير. فضلاً عن ذلك، من شأن الأسد أن يفهم بأن استمرار التواجد العسكري الإيراني في بلاده يلحق به الضرر أكثر من النفع، وذلك لأنه يورطه مع إسرائيل ويخلق احتكاكات في علاقاته مع روسيا. قد تواصل سوريا كونها عرضة للضغوط من الخارج، من الولايات المتحدة وإسرائيل، وربما من روسيا وتركيا، إخراج القوات الإيرانية من سوريا. كما لا تتجاهل إيران أن نظام الأسد، رغم استقراره، لن يبقى في المدى الأبعد، وسيستبدل بنظام يفضل الابتعاد عن إيران.
لهذه الأسباب، قررت إيران ألا تكتفي بتقديم المساعدة العسكرية والاقتصادية لسوريا، بما في ذلك التدخل العسكري فيها. كانت نية إيران ولا تزال استغلال الضائقة والخراب اللذين تعيشهما سوريا محاولة التأثير على بعض العناصر الطائفية والاقتصادية في المنظومة السورية، بحيث تتعزز الصلة بينها وبين إيران، دون أن تكون متعلقة بنظام الأسد فقط. هكذا أصبح التغلغل الاقتصادي- الاجتماعي إلى سوريا عنصراً مركزاً في سياسة إيران الشرق أوسطية.
منظومة الاتفاقات بين إيران وسوريا
إن المساعدة العسكرية الواسعة التي تمنحها إيران لسوريا منذ 2012، وبالأساس منذ 2014، كانت تكمن في منظومة الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، والهادفة إلى ترتيب التدخل العسكري الإيراني في سوريا والمساعدة الاقتصادية الواسعة لها. لم ينكشف مضمون هذه الاتفاقات باستثناء الجوانب الاقتصادية، ولكن لا شك أن لهذه المساعدة دوراً مركزياً في نجاح نظام الأسد في البقاء والانتعاش. منذ 2018، حين تبين أن نظام الأسد نجا من خطر الانهيار القريب، انكشفت بالتدريج تفاصيل اقتصادية أخرى عن الاتفاقات التي وقعت بين إيران وسوريا، والتي ستؤثر على منظومة العلاقات بينهما في المستقبل. كما يمكن الافتراض أن بعض هذه الاتفاقات، وأساساً في المجال العسكري، لم تنكشف ولا حتى على المستوى الاقتصادي، لأنها تتعلق بالتصدي لإسرائيل.
في هذا الإطار، في آب 2018، وفي آذار 2019 وقعت بين إيران وسوريا سلسلة من الاتفاقات التي تعنى بتوسيع التعاون العسكري بين الدولتين وبإعادة بناء القوات العسكرية والصناعات العسكرية في سوريا. كما قررت هذه الاتفاقات استمرار التواجد للمستشارين العسكريين الإيرانيين في سوريا، والمقصود هو الحرس الثوري وقوة القدس والميليشيات العسكرية الشيعية. أما في المجال الاقتصادي، فوقعت في 2018 – 2019 سلسلة من الاتفاقات لاستثمارات إيرانية في سوريا، لبناء وترميم المناطق المدمرة في الحرب، لتوريد النفط الإيراني في سوريا، ولمجالات المواصلات والقطارات واستغلال المحاجر.
للطرفين مصلحة واضحة في توسيع العلاقات العسكرية والاقتصادية بينهما. من ناحية سوريا، تقدم إيران المساعدة الاقتصادية الأوسع منذ سنين، بلا بديل. فالدعم الاقتصادي الإيراني مهم لسوريا لمواجهة دمار الحرب الأهلية. ولهذا السبب، لن يسارع نظام الأسد إلى المس بعلاقاته مع إيران، رغم الضغوط عليه. وفي نظر النظام الإيراني، فإن المساعدة الاقتصادية هي إداة مركزية في ربط سوريا بها، وتثبيت نفوذها في المنطقة بين إيران والبحر المتوسط. وفي ضوء العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران ووضعها الاقتصادي المتردي، وفي ضوء الانتقاد الداخلي في إيران على الأموال التي تنقلها إلى سوريا، من المهم للنظام الإيراني أن يظهر أن العلاقة مع سوريا تجلب معها مردوداً اقتصادية، في إطار الاستثمارات الإيرانية في سوريا.
توطين سكان شيعة في سوريا
إحدى الخطوات الأهم التي تتخذها إيران، بالتنسيق مع نظام الأسد، هي إسكان عائلات شيعية في سوريا على حساب السكان السنة. فالفرصة التي فتحت أمام الإيرانيين لاتخاذ هذه الخطوة نبعت من عوامل: التقاء مصالح نظام الأسد وإيران لتغيير الميزان الديمغرافي في سوريا لصالح العلويين والشيعة، والإمكانيات الناشئة عقب الدمار الواسع الذي خلفته الحرب الأهلية، بما في ذلك نزوح ملايين السنة من بيوتهم، وتواجد القوات الإيرانية والشيعية في سوريا.
واضح أن عدد الشيعة القليل في سوريا- نحو واحد في المئة من عموم السكان- لن يسمح بتغيير كبير في الميزان الديمغرافي العام. وبالتالي، يبدو أن الإيرانيين يسعون إلى تغيير الميزان في مناطق معينة وزيادة وزن الشيعة فيها. هناك تقارير تفيد بأن من المهم لإيران على نحو خاص نقل سكان شيعة إلى المنطقة التي بين دمشق وحمص، لتعزيز القبضة الإيرانية في غرب سوريا، في المناطق المؤدية إلى لبنان، وهكذا بناء خلفية لحزب الله من الشرق. وانطلاقاً من هذا الفهم، تشجع إيران نقل عائلات شيعية عراقية، وكذا عائلات مقاتلي الحرس الثوري والميليشيات الشيعية، وتسكنها في منطقة دمشق وشرق سوريا، في المناطق التي فر منها سكانها السنة.
ومن أجل تشجيع نمو السكان الشيعة في سوريا، تمنحهم إيران المال، والغذاء، والخدمات العامة والتعليم المجاني. فقد سيطرت ميليشيا إيرانية-شيعية على مساجد ومواقع مقدسة في مدن وقرى في شرق سوريا ووسطها. وفتح الإيرانيون مدارس، ولغة التعليم فيها الفارسية، وهم يقدمون المنح للطلاب، بما فيها للتعلم في إيران. إن زيادة عدد السكان الشيعة في سوريا يعد أمراً إيجابياً في نظر نظام الأسد. فهؤلاء سكان سيؤيدون النظام عند الضائقة، والهجرة الشيعية يمكن أن تعتبرها إيران مردوداً على الإسناد الواسع الذي قدمته لنظام الأسد في لحظته الصعبة. كما أن الهجرة الشيعية مرغوب فيها من النظام، لأنها تنطوي على مساعدة إنسانية وخدمات أساسية للسكان على حساب إيران. كما أن هناك من يعتقد أن نظام الأسد سيساعد الاستيطان الشيعي في سوريا من خلال منع عودة اللاجئين السنة إلى بيوتهم.
وبينما يرحب النظام بالهجرة الشيعية، فإن السنة ويحتمل حتى العلويين الموالين للنظام يقلقون من هذه الخطوة، فهم يخشون من تغيير الطابع الديني للقرى والأحياء التي تسكن فيها الشيعة، بمساعدة مالية إيرانية، وبالأساس من التأثير الديني الذي تحاول إيران فرضه في هذه المناطق. واضح في كل الأحوال أن الاستيطان الشيعي في سوريا، إذا ما بلغ حجوماً كبيرة، سيعزز أساس النفوذ الإيراني، وبالتوازي مكانة حزب الله أيضاً في أجزاء من سوريا.
تنظيم حزب الله السوري
في موعد قريب من بدء الحرب الأهلية في سوريا، ولدت فكرة بناء ميليشيا شيعية في سوريا لمساعدة نظام الأسد في أزمته. وساعدت إيران في منتصف 2012 نظام الأسد في بناء ميليشيات محلية وإقليمية في قرى مختلفة في سوريا. وفي نهاية 2012 بدأت إيران تجمع هذه الميليشيات في جنوب سوريا في تنظيم عسكري شيعي برعاية قوة القدس والحرس الثوري، وبمساعدة حزب الله اللبناني وميليشيات عراقية. وزودت إيران التنظيم بقوى بشرية جندتها من قرى شيعية في سوريا، بالتدريب والعتاد والرواتب العالية. التنظيم الذي سمي لواء 313 تشكل من شيعة سوريين وعلويين وشيعة عراقيين يعيشون في سوريا وكذا متطوعين شيعة من إيران والعراق وأفغانستان، وكان يفترض أن يكون جزءاً من جيش الأسد أو يعمل تحت قيادته.
تأثر هذا التنظيم بنموذج حزب الله اللبناني. وعمقت إيران العلاقة والتنسيق بين حزب الله السوري وغيره من الميليشيات الشيعية الأخرى، ولا سيما مع حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية العراقية.
مشكوك أن تستخدم إيران حزب الله السوري مثلما تفعل مع حزب الله اللبناني. وسيكون حزب الله السوري مرتبطاً بإيران وهدفه تعزيز نفوذها في سوريا، وإن كان تابعاً للجيش السوري، ومعقول الافتراض ألا تستخدمه إيران بخلاف مصلحة النظام السوري.
محاور مواصلات استراتيجية
إن استخدام القوات الإيرانية والميليشيات الشيعية في سوريا، وتعزيز حزب الله اللبناني في لبنان وسوريا، متعلقان بوجود وتطوير محاور مواصلات آمنة من إيران إلى العراق، إلى سوريا وإلى لبنان. وتعاظم هذا التعلق في السنوات الأخيرة في أعقاب الحرب الأهلية في سوريا، واستمرار نشاط وحدات داعش في سوريا والعراق، وتواجد قوات أمريكية في شرق سوريا، وفوق كل شيء هجمات سلاح الجو الإسرائيلي ضد أهداف للقوات الإيرانية والميليشيات الشيعية في سوريا، ومؤخراً في العراق أيضاً. أما الرد الإيراني على هذه التحديات فيتركز في ثلاثة مجالات: في محور بري يؤدي من إيران عبر العراق إلى سوريا ولبنان؛ وفي ربط خطوط قطارات إيران والعراق وسوريا؛ وفي دق وتد إيراني في ميناء اللاذقية في سوريا.
في أواخر 2019 سيفتح معبر الحدود بين سوريا والعراق في البوكمال. هذا المعبر نقطة أساسية في الرواق البري الذي تسعى إيران لبنائه، وسيمتد من إيران عبر العراق وإلى داخل سوريا ولبنان، حتى البحر المتوسط. وسيسمح الرواق بعبور سريع لوحدات المقاتلين، وللوسائل القتالية النوعية وتموين القوات الإيرانية والشيعية في سوريا، وأساساً لتعزيز قوة حزب الله في لبنان. وتعتزم إيران التحكم بالرواق من خلال الميليشيات الشيعية، بعد أن دحرت وحدات داعش في محيطه.
وبالتوازي مع فتح معبر الحدود، في خريف 2019، سيبدأ تنفيذ مشروع سكة الحديد من شلمتشا غرب إيران إلى البصرة جنوب العراق، ليربط لاحقاً الخليج بالبحر المتوسط. في هذا الإطار تبحث إيران والعراق وسوريا في مشروع لربط سكة الحديد من ميناء بندر الخميني في جنوب غرب إيران إلى ميناء اللاذقية في سوريا. قبل الحرب الأهلية في سوريا انتهى تنفيذ معظم المشروع، ولكن أجزاء كبيرة من السكة تدمرت من القصف، وتعرقل مد السكة على مدى ثماني سنوات. مع انتهاء المشروع ستستخدم السكة لنقل البضائع من إيران إلى ميناء اللاذقية، ولكن يمكن أن تستخدم أيضاً لنقل الوسائل القتالية إلى سوريا ولبنان. وتفترض إيران أن إسرائيل ستستصعب ضرب القطارات خوفاً من مس واسع للمدنيين أيضاً.
الموقع الإيراني في ميناء اللاذقية
تطلعت إيران منذ سنين إلى إيجاد موقع لها على شاطئ البحر المتوسط لتحقيق اتصال مباشر بالبحر، وبناء محور تموين آخر إلى سوريا عبر البحر، وصولاً سريعاً إلى الحليف السوري في البر والجو والبحر. وكانت إيران طلبت من سوريا، منذ 2011، الحصول على خدمات في ميناء طرطوس، غير أن سوريا عارضت ذلك. ومع استقرار نظام الأسد، عادت إيران للطلب من جديد. في كانون الثاني 2019 وافقت الحكومة السورية على وضع ميناء اللاذقية، شمال طرطوس، تحت إدارة شركة إيرانية، ابتداء من تشرين الأول 2019. عارضت روسيا الموقع الإيراني في اللاذقية، غير أن نظام الأسد رد المعارضة الروسية.
إن بناء الموقع الإيراني في ميناء اللاذقية يعد تطوراً مهماً؛ لأنه يندرج ضمن الجهد الإيراني لربط الخليج الفارسي وغرب إيران بالبحر المتوسط، من خلال سكة الحديد والرواق البري. إن الهدف الأساس هو خلق محور إضافي لنقل وسائل قتالية إلى حزب الله والقوات الإيرانية والشيعية عبر البحر، وإبقاء على وجود إيراني في البحر المتوسط عند الحاجة.
الخلاصة والمعاني
منذ 2014 وعلى خلفية التدخل العسكري في سوريا، تتخذ إيران سلسلة من الخطوات، بهدف تعزيز مكانتها ونفوذها، وانتشار فروعها في سوريا ولبنان. ينبع هذا الهدف من تطلع إيران لتصميم كتلة من الدول يكون فيها للشيعة مكانة سائدة، تمتد من غرب أفغانستان وحتى لبنان والبحر المتوسط. وينبع هذا الهدف من رؤية إيران الاستراتيجية بأن جبهتها المتقدمة أمام خصومها بعيدة عن حدودها الغربية، في مجال سوريا – لبنان. وتستهدف هذه الخطوات ربط النظام السوري بها على مدى الزمن، في حالة اضطرارها إخراج قواتها من سوريا أو في حالة انهيار نظام الأسد.
حتى لو نجحت إيران في استكمال بناء منظومة المحاور التي تخطط لها، ستبقى أمامها صعوبات تتمثل في تفوق سلاح الجو الإسرائيلي وقدرته المثبتة على ضرب أهداف في هذه المنظومة، على أساس الاستخبارات النوعية والدقيقة. والأمور صحيحة أيضاً بالنسبة للعوامل الجديدة في هذه المنظومة، فهناك شبكة السكك الحديدية والاستخدام الإيراني لميناء اللاذقية. ستكون إيران مطالبة بالتالي بمحاولة بناء قدرات جديدة للرد وأكثر إيلاماً، تتمكن من ردع إسرائيل من مواصلة الهجمات.
القدس العربي