لم تكن الاضطرابات المندلعة في العراق في بداية تشرين الأول/أكتوبر 2019 وأدت لمقتل أكثر من مئة متظاهر وجرح 6000 آلاف غير متوقعة. ففي العراق تناقض كبير بين دولة غنية لديها رابع احتياطي نفط في العالم، وشعب في أغلبيته في ريعان الشباب يعاني من نيران البطالة و يعيش جزء كبير منه تحت خط الفقر. إن تجميد ونقل اللواء الركن القيادي عبدالوهاب السعدي، الذي يتمتع بشعبية بسبب الأدوار التي لعبها في السنوات القليلة الماضية خاصة في مواجهة الدولة الاسلامية داعش أدى لتعميق الغضب، إذ يبدو أن الناس نظرت للسعدي كعسكري محترف خارج منظومة الفساد، وبصفته شخصية عراقية مستقله عن توجهات الميليشيات الاكثر ارتباطا بإيران، وأن هذا بالتحديد، وفق قناعة الشارع، أدى لنقله من عمله كنائب قائد قوات جهاز مكافحة الإرهاب من 2014-2019.
ولوقوع المظاهرات في المناطق ذات الأغلبية والكثافة الشيعية قيمة كبيرة. ورغم وجود بعض الشعارات المعادية لإيران والناقدة لدورها في العراق، الا أن المطالب بالأساس تتعلق بالبطالة والفساد والكهرباء والمياه. ان تقع التظاهرات في مناطق الشيعية بينما يقوم الحشد الشعبي بالدفاع عن الوضع يعكس طبيعة التناقض القائم في هذه المرحلة.
ويعيش النظام السياسي الراهن في العراق على المحاصصة بين كتل سياسية مختلفة. هذه المحاصصة تستنزف الاقتصاد، فكل حزب وتيار يأخذ لنفسه حصة من الدولة ويوزع الفوائد باتجاه أنصاره وحزبه. لهذا فقد الشبان العراقيون الأمل بدور المؤسسات كالبرلمان، و الحكومة والدولة. بل تميزت آخر انتخابات في العراق في 2018 بضعف المشاركة. وبالرغم من أن حزب مقتدى الصدر المعارض أخذ مقاعد جديدة في تلك الانتخابات، إلا أن الامل بالتغير تبخر بفضل طبيعة المحاصصة في الدولة. وهذا يفسر زخم الحراك والغضب في الشارع العراقي.
إن وصول الاحتجاجات لهذه الدرجة من الزخم يعني أن الوقت أصبح متأخرا للإصلاح السريع، وان دورة جديدة من الاحتجاجات عمودها الشباب قادمة في المدى المنظور إلا إذا وقعت إصلاحات ذات طابع استراتيجي. إن التوزيع والإعاشة، لن يغيروا الكثير، فهناك أزمة هيكلية كبيرة وحاجة واضحة لتغيرات أكثر شمولية.
أذكر تجربتي الأولى في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين. فقد دعيت لحضور مؤتمر القمة العربي المنعقد في 2012. كان ذلك في عهد رئيس الوزراء المالكي وقبل بروز داعش على المشهد السياسي العسكري في 2014. فوجئت بوضع العراق، إذ تبين لي أنه لا توجد أعمال لإعادة بناء ما دمرته الحرب. فوجئت ايضا بأن المنطقة الخضراء لم تكن خضراء بل كتل من الإسمنت المسلح لحماية الحكومة والسياسيين الذين انتقلوا للعيش في تلك المنطقة.
لقد أصبح العراق على مفترق طرق بين نظام سياسي أضاع مشروع الدولة وبين مجتمع وجيل شاب لم يعد يحتمل الانتظار وهو يسعى لإعادة صياغة مشروع الدولة العراقية على أسس جديدة
وبينما أنا في العراق في أيام المؤتمر في 2012 تبين لي بأن العراقيين غير سعداء بالأوضاع الاقتصادية وخاصة المرتبطة بالفساد في بلادهم، وان هذا التذمر واقع أيضا في الوسط الشيعي الذي يشعر بفقدان أمنه، وفوجئت أن الوسط الشيعي فيه الكثير ممن يبحثون عن مشروع عراقي للعراقيين وعن عراق مستقل عن محيطه وعن السيطرة الإيرانية والأمريكية. لم يكن سائق السيارة والعاملون في الفندق والمرافقون (والكثير منهم من أبناء الطائفة الشيعية ومن الجنوب) سعيدا بما آل إليه وضع العراق. إن ما رأيته عام 2012 أكد لي أن العراق عصي على الهضم، فالعراق قادر على إحياء مشروعه الوطني.
لا يمكن القول بأن العراق لم يتغير منذ ذلك التاريخ، فهناك تغير في وضع المنطقة الخضراء التي لم تعد بالعزلة التي رأيتها وذلك في ظل تحسن الحالة الأمنية في بغداد، وقد سعت حكومة عادل عبد المهدي ورئاسة د. برهم صالح لتحسين الأوضاع في أكثر من مجال بما في ذلك الاقتصاد. لكن الواضح بنفس الوقت أن ذلك لم يكن كافيا نسبة لعدد السكان وحجم المسؤوليات. ففي العراق 700 الف خريج سنوي، بينما يستوعب العراق 50 ألف وظيفة. معظم الوظائف الجديدة طبيعتها شكليه. إن العمل الذي يحتاج لـ 400 شخص في هذه المؤسسة او تلك يوضع به 2000 موظف. أما قوى الأمن فعددها أكثر من مليون لكن أغلبية العاملين فيها لا يأتون لأعمالهم، هناك بطالة مقنعة بسبب نفوذ الأحزاب الذي أصبح أكبر من الدولة وبسبب المحاصصة بين الاحزاب. لهذا ليس غريبا أن العراق أصبح الرقم 168 من 180 دولة في العالم من حيث مستوى الفساد. في العراق لا كهرباء كما يجب ولا خدمات عامة حسب الاحتياجات.
لقد اقر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي في خطابه في اول تشرين الأول/اكتوبر بالظروف الصعبة التي يمر بها الشعب العراقي، ولهذا وعد بأن حكومته ستجد الحلول، وهذا ما أكده رئيس الجمهورية د. برهم صالح في خطابه. كما ان السيد السيستاني دعا لإصلاحات سياسية، قبل فوات الاوان، وادان العنف الموجه للمتظاهرين. ومن جهته السيد مقتدى الصدر، كان واضحا في نقد الوضع فطالب بمقاطعة البرلمان، حتى تستجيب الحكومة للإصلاحات. كما اعتذرت قوى الأمن العراقية لاستخدام العنف، وقالت إن قادتها لم يأمروا باي عنف ضد المتظاهرين، وبأنهم لا يعرفون هوية القناصة.
تزداد الاسئلة في العراق: من هم هؤلاء الذين يقررون الرد على مطالب بالعمل والحياة الكريمة بالرصاص الحي؟ هل هي قوى مرتبطة بإيران أم قوى الفساد وأذرعها في الأجهزة؟ هل خسرت كل الأحزاب الرسمية الشعب العراقي وبالتالي العلاقة الايجابية والرومانسية مع إيران؟ فالعراق في هذه اللحظة يبحث عن نفسه ومستقبله. إن فشل الاصلاح والوعود سيمهد لانتفاضة قادمة، لهذا تشكل هذه الانتفاضة بداية لعملية تغير ستتخذ أشكالا عدة. لقد أصبح العراق على مفترق طرق بين نظام سياسي أضاع مشروع الدولة وبين مجتمع وجيل شاب لم يعد يحتمل الانتظار وهو يسعى لإعادة صياغة مشروع الدولة العراقية على أسس جديدة.
القدس العربي