أميركا منسحبة ومنخرطة في الشرق الأوسط في آن. تنسحب فيحدث تحوّل استراتيجي وسباق لملء الفراغ. وتنخرط فتفعل ما لا يستطيع غيرها فعله من عمليات عسكرية دقيقة وخطرة. انسحبت من شرق الفرات فانسحبت قوات سوريا الديمقراطية مسافة ثلاثين كيلومتراً، واندفع الغزو التركي، وضمن الروس عودة الجيش السوري إلى جانب الشرطة العسكرية الروسية. فاجأت العالم كله بعملية عسكرية في إدلب قتلت المطلوب الأول للعدالة في المنطقة والعالم بسبب الجرائم الوحشية التي قام بها “جنود الخلافة”: “الخلافة” الداعشية التي أقامها إبراهيم عواد البدري أبو بكر البغدادي في مساحات من العراق وسوريا وأعلن نفسه من جامع في الموصل “أميرها”. كانت الضربة قوية على داعش بعد إخراجه من الموصل والرقة التي سماها عاصمة “الدولة الإسلامية” وبقية المدن والقرى العراقية والسورية. في العراق، كانت القوات العراقية تقاتل الدواعش مدعومة بالقوات الجوية الخاصة والأميركية. وفي شرق الفرات، كانت أميركا أيضاً وراء قوات سوريا الديمقراطية التي يشكّل الكرد عمودها الفقري.
لكن داعش الذي خسر الأرض تحوّل إلى خلايا تعمل على طريقة حرب العصابات. إذ بقي لديه، بحسب المعلومات الاستخبارية الأميركية، ثلاثون ألف إرهابي في العراق وسوريا. وله ثلاثة آلاف إرهابي شرق أفغانستان، وآخرون عادوا من سوريا والعراق إلى كازاخستان وطاجيكستان. وله مبايعون في إندونيسيا والفيليبين وليبيا ونيجيريا ودول أفريقية عدة. والسؤال على كل الألسنة هو ماذا بعد مقتل البغدادي. هل يخلفه من اختاره بنفسه، إذا كان لا يزال حياً، واسمه عبدالله قرداش المسمّى “البروفسور قرداش” وهو تركماني عراقي أم يأتي سواه من خارج العراق أم يصبح داعش أكثر من تنظيم واحد؟ هل يستعيد تنظيم “القاعدة” الذي انطلق منه البغدادي الدور الأول في العمليات الإرهابية؟
الثابت تاريخياً أن قتل القيادات الإرهابية لا ينهي عمل التنظيمات. أبو بكر البغدادي سبقه أبو عمر البغدادي الذي سبقه أبو مصعب الزرقاوي. الثلاثة قتلتهم القوات الأميركية وكان يخلف كل قتيل قائد أشد منه وحشية. مقتل أسامة بن لادن لم ينهِ “القاعدة”.
وقوة داعش أنه “فكرة” جاذبة لشباب في بلدان عدة. كذلك قوة القاعدة. ففي مخبأ بعد السقوط الجغرافي للخلافة الداعشية قال أبو بكر البغدادي يوم 29 أبريل (نيسان) 2019 إنّ المعركة هي معركة “أمة الإسلام” في وجه “أمة الصليب”. “إدارة التوحش” في سوريا انتهت. والمعركة مع “أمة الصليب طويلة، وهي معركة استنزاف جميع القدرات البشرية والعسكرية والاقتصادية واللوجستية”. و”الله أمرنا بالجهاد ولم يأمرنا بالنصر”.
وفي كتاب تحت عنوان “تشريح الإرهاب: من موت بن لادن إلى صعود الدولة الإسلامية” يقول المؤلّف علي صوفان، وهو من مواليد بيروت وعمل مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي وحقّق مع “الجهاديين” المعتقلين في العراق، إنّ داعش “ديني أولاً وسياسي ثانياً”، أما تنظيم القاعدة فإنّه “سياسي أولاً وديني ثانياً”. وهو يرى أنّ جاذبية داعش ليست لأنّه يقاتل القوات الأميركية مثل القاعدة بل لأنّه “أنشأ الدولة الإسلامية حيث لا قانون سوى شرع الله”، وأنّ الجهاديين جاؤوا للقتال من أجل “مملكة السماء على الأرض”.
أما جيمس فيريني الذي أصدر مؤخّراً كتاب “عليهم أن يموتوا الآن: الموصل وسقوط الخلافة”، فإنّ تجربته في معايشة القتال ضد داعش مع القوات العراقية علّمته أن يربط الحاضر بذاكرة الماضي.
وهو يستعيد ما فعله البريطانيون في العراق عام 1920 ثم ما فعله الأميركيون في الاجتياح عام 2003 ليصف داعش بأنّه “وارث الجهادية التي عمرها قرن كأداة ضد الكولونيالية، وآخر منظّمة متمرّدة تستخدم الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية”. ثم يضيف إلى هذه الأسباب، العامل الإيراني والفساد والسياسة المذهبية لحكومة نوري المالكي ليقول إنّ داعش بدا حتى عند بعض أهل الموصل “البديل الحقيقي من المالكي”. والخلاصة بالنسبة إليه هي “أن المشاكل التي سمحت لداعش بأن ينشأ وينمو لا تزال بلا حدود، وهذا يساعد في تجنيد الشباب”.
والعامل الأخير الذي يدفع الشباب نحو داعش هو “الإصرار على الحكم بالقوة”. وأما آن برنارد التي عملت مديرة لمكتب “نيويورك تايمس” في بغداد ثم في بيروت، فإنها ترى “أن النصر عبر العنف الأقصى ضد المتشدّدين والمدنيين معاً ليس وصفة للاستقرار”.
واللافت أنّ محاربة الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية هي في آخر لائحة الاجتماعات لدى القاعدة وداعش. الأولوية لدى القاعدة هي للتركيز على “العدو البعيد”. والأولوية لدى داعش كانت لإقامة “دولة الخلافة” على أرض المنطقة. والآن هي أيضاً للعمليات ضد “العدو القريب والعدو البعيد”. والكل يتوقّع تصعيداً. بعض الخبراء يرى أنّ هناك أربعة أشهر من السكون لترتيب خلافة البغدادي. وبعضهم الآخر يتصوّر أنّ داعش سيخطّط لعملية ضخمة بسرعة كانتقام من أميركا. وليس أخطر من العمليات الإرهابية سوى توظيف الدول للتنظيمات الإرهابية ولو كانت ضدها.
اندبندت العربي