استراتيجية محاربة الإرهاب بعد البغدادي

استراتيجية محاربة الإرهاب بعد البغدادي

يضع مقتل زعيم تنظيم «داعش»، أبو بكر البغدادي، نهاية لمطاردة استمرت سنوات وجهود حثيثة ومستمرة من جانب عشرات الدول وعناصر متحالفة معها لا تتبع دولاً.
الآن، تخلص العالم من العقل المدبر الرئيسي وراء أبشع أعمال العنف في التاريخ الحديث. وباعتبار ذلك واحداً من أبرز الإنجازات على صعيد مكافحة الإرهاب في القرن الحادي والعشرين، فإن الآن هو الوقت المناسب أمام الكثيرين للاحتفال. ومن وجهة نظر الضحايا الكثيرين لوحشية «داعش»، ليس داخل سوريا والعراق فحسب، وإنما أيضاً عالمياً، تبدو هذه لحظة قد تحمل ولو ملمحاً للعدل والسلام.
ومع هذا، فإن هذا الإنجاز، مثلما كان الحال مع هزيمة «الخلافة» المزعومة التي أعلنها «داعش» في سوريا والعراق، لا يمثل نصراً ـ في الواقع، هو أبعد ما يكون عن ذلك. وباعتبار أنه تنظيم مولع بالبيروقراطية، فمن المؤكد أن لدى «داعش» سلسلة خلافة واضحة مجهزة تحسباً لموت الزعيم. ومن المحتمل، أن تكون عملية الخلافة هذه جارية اليوم بالفعل، بل وربما تكون قد أنجزت.
علاوة على ذلك، يمر «داعش» الآن بفترة تفكيك متعمد للمركزية كان قد بدأها البغدادي في سوريا والعراق منذ نحو عامين. ومثلما فعلت الجماعة السابقة لـ«داعش» في العراق أواخر العقد الأول من القرن الحالي، جرى حل «الجيش» شبه التقليدي التابع لـ«داعش» وتحويله إلى شبكة من الخلايا شبه المستقلة المستعدة للمشاركة في حرب عصابات طويلة الأمد ترمي إلى زرع بذور الشقاق العرقي والسياسي والطائفي وتأجيجه، بجانب تقويض الثقة في السلطات المحلية والوطنية المنافسة.
وعليه، فإنه في ظل وجود البغدادي أو عدمه على رأس التنظيم، ستستمر حرب العصابات تلك. الأهم من ذلك، أن الضوء الأخضر الفعلي الذي منحه الرئيس الأميركي دونالد ترمب للرئيس التركي رجب طيب إردوغان لشن غزو عسكري في شمال شرقي سوريا منذ بضعة أسابيع، خلق ظروفاً أكثر ملاءمة لعودة «داعش»، في الوقت الذي تبدو الولايات المتحدة وحلفاؤها أقل استعداداً للاستمرار في تشكيل تحد حقيقي في مواجهة فلول «داعش».
ولو أن الرئيس ترمب أنصت إلى مستشاريه، ربما كان العالم اليوم سيحظى بفرصة لا تقدر بثمن لتعزيز الضغوط على شبكة «داعش» في سوريا والعراق خلال الفترة الانتقالية القصيرة بين زعيم لآخر، والتي يكون خلالها التنظيم في أضعف حالاته. بدلاً من ذلك، جرى إهدار الطاقة الأميركية على إعادة الانتشار في شرق سوريا في خضم بيئة أكثر تعقيداً وغموضاً، بينما يتعرض شركاؤنا الأساسيون والموثوق بهم، قوات سوريا الديمقراطية، لتشتيت كبير بسبب التهديد الوجودي الذي يتعرضون له من جانب تركيا وروسيا والنظام السوري.
منذ شهر، كانت جميع العناصر التي وفرت لـ«داعش» الفرصة كي يعود إلى المشهد من جديد على نحو درامي للغاية عام 2014 لا تزال قائمة، بل وتفاقم الكثير منها وازداد سوءاً. وتسببت التطورات الأخيرة، خاصة الغزو التركي في شمال شرقي سوريا، في ازدياد الوضع سوءاً. ومع افتراض أن «داعش» اجتاز عملية الخلافة المحددة بدقة، فإن التنظيم يبدو مهيأً للاستفادة من تلك الظروف المواتية. وإذا استرشدنا بالتعافي الأخير للتنظيم بين عامي 2010 و2014، فإننا لن نعاين أي إعادة توسع دراماتيكية أو مفاجئة، وإنما سينفذ التنظيم عملية معدة سلفاً وتسعى لاستغلال أي فرصة سانحة.
في الوقت الحالي، تمثل مسألة التصدي بفعالية لـ«داعش» تحدياً يتعلق أكثر بجهود إنفاذ القانون وجمع الاستخبارات عن كونها تحدياً عسكرياً تقليدياً. ويستلزم ذلك توافر عناصر لمكافحة الإرهاب عالية القدرات تتمتع بموارد مكثفة وتركيز كبير.
تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن غياب الاستقرار المستمر في العراق والشكوك التي تحيط وحدة صف البرلمان يثيران القلق. وفي سوريا المجاورة، تشتت انتباه قوات سوريا الديمقراطية واضطرت للانتشار على مساحات بالغة الاتساع، بينما لا يملك النظام السوري الموارد أو القدرات اللازمة للتصدي لـ«داعش» بصورة حقيقية. وعند إلقاء نظرة عامة على مجمل هذه الأوضاع، نجد أنها لا تنبئ بالخير.
فيما يخص المجتمع الدولي، هناك ديناميكية دولية فاعلة في الوقت الحالي. في الواقع مسألة أن «داعش» نجح ذات يوم في بسط سيطرته على مساحة واسعة من الأراضي تمتد عبر العراق وسوريا، حقيقة لا يمكن إنكارها. والمؤكد أن هذه الفكرة المتعلقة بمنطقة جغرافية متطرفة قابلة للتحقق على أرض الواقع، ستظل في أذهان المتطرفين لأجيال قادمة وسيسعون مرة تلو أخرى لفرضها على الأرض، وسيجدون في تدمير هذه الدولة مبرراً لأعمال انتقام عنيفة. ورغم أنها الآن في الخيال فقط، فإن هذه «الخلافة الافتراضية» ستظل أداة تجنيد قوية وتحدياً كبيراً في معركة الأفكار العالمية التي نخوضها.
من ناحية أخرى، حفزت النجاحات التي حققها «داعش» في العراق وسوريا بين عامي 2014 و2016 انتشاراً عالمياً في اسم «داعش»، ومن غير المحتمل أن تتسبب الهزيمة التي مني بها التنظيم على الأرض أو مقتل البغدادي في تقويض هذا الانتشار. أما الأمر الذي يثير القلق أكثر من ذلك فهو أن القضايا الدعائية العالمية التي تتبناها «القاعدة» و«داعش» يبدو أنها تكتسب تأييداً في خضم بيئات صراع محلية.
وتجلت هذه الصبغة المحلية التي يجري إضفاؤها على التطرف بشكل خاص في أفريقيا، حيث سعت «القاعدة» للتأقلم بذكاء أكبر مع صراعات محلية قائمة بالفعل، وحيث وجد «داعش» الكثير من الأتباع الجدد المتحمسين. في الوقت الراهن، يبدو أن هذا التوجه سيستمر لبعض الوقت ويشكل مجموعة من التحديات المعقدة أمام المجتمع الدولي. والآن، اكتسبت مسألة التعامل مع الأسباب الجذرية للصراعات أهمية أكبر.
ومما سبق يتضح أن مقتل البغدادي لا يشكل بالضرورة حدثاً قادراً على تغيير المشهد بأكمله، لكن ينبغي أن يمثل الإطار العام الذي وقع فيه صيحة تنبيه للمجتمع الدولي. هذا ليس الوقت المناسب لاتخاذ خطوة للخلف، وإنما هذا الوقت المناسب لمضاعفة جهودنا في مواجهة «داعش» وتعديل مجمل استراتيجيتنا الجماعية بحيث تصبح أكثر شمولاً وتوفر حلولاً محلية. ومثلما الحال مع عناصر المواجهات غير المتكافئة، تتسم التنظيمات الإرهابية هي الأخرى بالمرونة. وعليه، يجب أن نتحلى بالمرونة نحن أيضاً.