تتابع إيران عن كثب الاحتجاجات في العراق منذ اندلاعها في تشرين الأول /أكتوبر الماضي، إذ تنظر إليها على أنها “مؤامرة تهدف إلى تقويض العلاقات بين البلدين الجارين”. ففي خضم تلك الاحتجاجات رفع شعارات ضد النفوذ الإيراني في العراق، وفي حرق صور المرشد الإيراني علي خامنئي في الناصرية، ثم إسقاط صور قائد الثورة الإسلامية في إيران روح الله الخميني في كربلاء، وتنظيم فعاليات في النجف وذي قار والبصرة لإحراق العلم الإيراني وصور زعامات ورموز إيرانية مختلفة، وصولاً إلى محاصرة القنصلية الإيرانية في كربلاء وإنزال العلم الإيراني منها ورفع العراقي، مع تعليق يافطة “مغلق بأمر الشعب”، ومهاجمة قادة أحزاب ومليشيات ووصفهم عبر صور ويافطات بـ”عملاء إيران” و”خدم الخارج”.
فالقلق هو سيد الموقف الإيراني من الاحتجاجات العراقية،التي تسعى للحفاظ على نفوذها في العراق، الأمر الذي يسعى المتظاهرون إلى تغييره. فالاحتجاجات تعتبر تهديدا حقيقيا ضد المصالح الإيرانية في العراق، لأن المظاهرات وطنية في صميمها، لذلك تمثل تحديا للسلطة السياسية المدعومة من إيران.
ويرى المتابعون للشأن العراقي أن إيران ستخسر الكثير إذا ما تم الإطاحة بحلفائها من الحكم، ولفتوا الاحتجاجات طالت حتى مناطق ومعاقل بعض التنظيمات المدعومة من إيران، كجنوبي العراق. ولكن ما هي الأسباب التي تدفع الجنوبيين للانتفاض ضد إيران؟ يشير بعض المراقبين إلى أن الجنوبيين يعتبرون إيران هي سبب الخيبة والجوع والقهر والنقص في كل شيء، والمسيطرة على موارد العراق عبر الأحزاب الموالية لها، وعبر رعاية المليشيات وتوسعة دوائر نفوذها على مستوى الشارع والحكومة والمجتمع والأمن.
خلال السنوات الثلاث الماضية، شهد الجنوب العراقي ما يمكن اعتباره إشارات على قرب انفجار رافض لكل أشكال النفوذ الإيراني في العراق بعد عوامل عديدة دفعت لذلك، منها فتح إيران مياه البزل المالحة على شط العرب، وقبلها قطع روافد المياه وتحويل مسارها، ثم حرق النفايات الإيرانية قرب الحدود والتسبب بمآسٍ في مدن عراقية قريبة في محافظة ميسان، ثم موافقة الحكومة على مشاركة عناصر أمن إيرانيين في تنظيم مراسم كربلاء والنجف الدينية وحصول مشادات وخلافات حادة بينهم وبين عراقيين، وصولاً إلى اتهام طهران بإغراق الجنوب بالمخدرات الرخيصة. وقد يكون الاحتقان الأكبر حصل مع تعرض سيدة عراقية من النجف للضرب على يد ضابط أمن إيراني في مطار مشهد، وهي حادثة قدّمت السلطات الإيرانية اعتذاراً رسمياً عنها، قبل أن يتبعها اعتداء مماثل على عائلة من أهالي البصرة كانت متوجّهة للعلاج في إيران أيضاً. في المقابل، شهدت البصرة حرق القنصلية ثم إنزال العلم الإيراني وحرقه وتخريب يافطة الإمام الخميني التي أطلقت على شارع وسط البصرة، ثم رفض إقامة مزار لمكان وضوء الخميني عام 1979 قبل مغادرته العراق، وهو ما نجح فعلاً بسبب الضغط الشعبي، وصولاً إلى رضوخ حكومة النجف في تغيير اسم شارع النجف الحولي بعدما رُفعت يافطة شارع الإمام الخميني، وكذلك محاصرة القنصلية في كربلاء وحرق الأعلام وصور الزعامات الإيرانية.
هذا التطور اللافت في علاقة العراقيين بإيران هو ما لم يتوقعه القادة في طهران، فالمتابعون للشأن العراقي يرون إن إيران تعاني حاليًا من أثر صدمة كبيرة، إذ إنها لم تكن تتوقع أن الجيل العراقي الجديد الذي كلّفها مليارات الدولارات من أجل تربيته بحسب معاييرها، سيخرج بانتفاضة ضدها وضد أحزابها، كونها تصوّرت بسبب رسائل أحزاب عراقية إليها أن العراقيين يحبون خامنئي ويريدون أن تصبح بغداد شبيهة بطهران وتحت حكم ولاية الفقيه، عبر مساندة المليشيات المسلحة لها، وتحويل العراق إلى حديقة إيرانية، وهذا الأمر جعلها تضع إمكانيات مالية هائلة وطموحات مستقبلية كثيرة في العراق، ولكن انتهت كل هذه الأفكار مع ولادة جيل عراقي جديد يؤمن بالعراق، ويُدرك تماماً كم استغلت إيران ضعف بلادهم وامتصت خيراته.
ولفتوا إلى أن العراقيين يرفضون أي شكلٍ من أشكال الوصاية، فكيف إذا كانت الوصاية المفروضة عليهم بالسلاح والقتل والاغتيال، إيرانية؟”، مضيفين بات واضحًا للإيرانيين شعباً وحكومة، الرفض العراقي لامتدادهم في غير دولتهم، وهم فُجعوا بصور حرق الخميني وخامنئي وسليماني وشاهدوا الغضب العراقي ومخاطره عليهم بالداخل.
لذلك يرى المتابعون للشأن العراقي إن “إيران تحاول الإبقاء على مسافة بينها وبين التوترات المتصاعدة في كلا البلدين، لكن قدرتها على القيام بذلك محدودة، إذ أن حلفائها المحليين، والجماعات المسلحة، مستهدفون من قبل المتظاهرين”. وأن تدخل إيران قد غذى غضب المتظاهرين، خاصة في العراق حيث “يكره العراقيون حقيقة أن إيران يمكنها التدخل في شؤونهم”.
وفيما يرى مراقبون عراقيون أن الأحتجاجات الحالية ليست فقط ضد النفوذ الايراني في العراق، وإنما من الوصاية الأميركية أيضاً والتدخّلات الخارجية جميعها، وقد بان الغضب أكثر وأكثر بعد الضربات الإسرائيلية لمواقع استهدفت فيها جنوداً ومعسكرات تابعة لفصائل الحشد الشعبي، ما أكد أن العراق صار ساحة لتصفية الحسابات الدولية والإقليمية ومنطلقاً لعمليات حربية لا شأن للبلاد فيها”. ولفتوا إلى أن “الساسة العراقيين أخطأوا مع شعبهم حين سخّروا العراق وموارده لصالح الأجانب والإيرانيين، وبالتالي فإن الرفض الحالي هو طبيعي ومتوقّع من شعب قارع الأنظمة القمعية ولا يقبل بالذل والجوع”، محذرين من أن “عدم تصحيح السياسة العراقية والانتباه لمصالح العراقيين بالدرجة الأساس، يعني أن الغضب سيقود إلى ثورة تكون أمرّ وأقسى على كل دول المنطقة”.
إيران كانت هي المستفيد الأكبر من احتلال أمريكا العراق عام 2003، لكنها لم تكن تكتفي بأن تحكم العراق من خلال (عراقيين موالين لها)، فدفعت بقائد (فيلق القدس) في الحرس الثوري الإيراني (قاسم سليماني) لكي يؤسس نسخة من الحرس الثوري الإيراني في العراق بدلا من (الجيش العراقي)، وهكذا فعل من خلال مليشيات (الحشد الشعبي) الذي أصبح يلتهم ميزانية الدولة، بالإضافة إلى الفساد المالي الذي استشرى في الأحزاب الموالية والطبقة السياسية الحاكمة في العراق، بالإضافة إلى الصفقات التجارية المشبوهة مع النظام الإيراني.. وهذا كله أدى إلى تفاقم الفقر والجوع بين عموم الشعب العراقي (شيعة وسنة)، وراح يتمرد على الأوضاع المزرية بمظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة.
لهذا يصبح من المضحك أن يقول إمام جامع طهران: (اقتلوا عملاء أمريكا المتظاهرين العراقيين!).. بينما في الحقيقة أن أمريكا هي التي أهدت العراق إلى إيران منذ عام 2003.. ولا يزال النفوذ الإيراني داخل العراق يتعاظم من خلال أحزاب موالية لها، وشخصيات سياسية عراقية مذعنة لها، ومليشيات مسلحة تطلق النار على المتظاهرين العزل، وقناصة تستهدف المحتجين في الشوارع.
صحيح أن هناك محتجين أحرقوا العلم الإيراني.. لكن (سياسة واشنطن) في العراق هي التي مكنت ومددت النفوذ الإيراني داخل العراق.. وخصوصا في عهد الرئيس الأمريكي (باراك أوباما).. وما يحدث في العراق من احتجاجات شعبية واسعة حاليا هو نتاج تلك السياسة (الأوبامية) الخرقاء في العراق والمنطقة العربية بأكملها.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية