مر أقل من أسبوع منذ قررت حكومة إيران رفع أسعار الوقود بعشرات النسب المئوية، إلى أن اضطر النظام إلى الانتقال للمرحلة الثانية القاتلة من قمع الاحتجاج. صحيح أن قطع خدمة الإنترنت تصعّب نقل المعلومات بين مجموعات الاحتجاج وبينها وبين العالم، لكن من المعلومات التي -رغم ذلك- تنجح في الخروج، هو عدد القتلى في المظاهرات الذي وصل إلى أكثر من 100، وهناك من يقولون إنه وصل إلى 200 قتيل وآلاف المصابين والمعتقلين.
في تقارير تستند إلى مصادر في “الباسيج”، تتحدث قوات المتطوعين لحرس الثورة الإيراني عن سلسلة تدريبات اجتازها الجنود مؤخراً حول طرق قمع المظاهرات وتفريقها، وعن جاهزية مرتفعة في صفوف حرس الثورة، الذي يمكن أن يستخدم القوات المدرعة في شوارع المدن. في بداية الأسبوع اعتقد النظام أن خطوات لينة مثل توسيع المساعدة المالية المباشرة لنحو 20 مليون محتاج كتعويض عن ارتفاع الأسعار، ستهدئ الجمهور. ولكن يبدو الآن أن القيادة تعترف بأنها تقف أمام تهديد عصيان مدني شامل.
إن انتشار الاحتجاج إلى 100 مدينة في جميع المحافظات وإحراق البنوك ومكاتب الحكومة والمس بمؤسسات التعليم الدينية وشعارات ورسومات غرافيك تطالب بـ “الموت لروحاني، الموت لخامنئي”، هي الدليل على ذلك.
صحيح أن هذه المشاهد ميزت عدداً من المظاهرات الكبرى التي اندلعت في الأعوام 2009 و2017 و2018، ولكن النظام في هذه المرة يجد صعوبة في رسم خط الحدود بين الإصلاحيين والمحافظين، ومن خلال ذلك التمييز بين المخلصين للثورة والأعداء الداخليين الذين يعملون بدفع من الولايات المتحدة وإسرائيل و”قوى الغطرسة الغربية”.
إذا كانت الاحتجاجات في البداية قد اندلعت في أحياء الفقر في طهران، فهي خلال ثلاثة أيام امتدت أيضاً إلى شمال طهران وشيراز وياز واصفهان ومدن كبرى أخرى، وشارك فيها الشباب والطلاب وأبناء الطبقة الوسطى للاحتجاج ضد النظام. التعبير الذي استخدمه قائد حرس الثورة “سيكون الرد حاسماً وثورياً” والطلب من محرر صحيفة “كيهان” التي هي تحت سيطرة الزعيم الأعلى علي خامنئي “إعدام المتظاهرين” تدل على مستوى التوتر والضغط، ولا نقول الرعب، الذي حل بالقيادة في إيران.
خلافاً لمظاهرات العام 2009 التي كان من الواضح فيها من أدارها وماذا كانت خصائص المشاركين فيها، فإنه وفي هذه المرة مثلما هي الحال قبل سنة، ليس للمتظاهرين قيادة أو رواد معروفين ذوي هوية أيديولوجية موحدة أو استراتيجية سياسية واضحة، أي أنه حتى لو كان النظام مستعداً لإجراء مفاوضات مع أي جهة تمثيلية -مثلما فعل مع المعلمين الذين قاموا بالإضراب وسائقي الشاحنات والعمال في المصانع الحكومية الذين قاموا بالاحتجاج – فليس لديه الآن عنوان محدد قد يؤدي تحييده إلى الهدوء. ولكن القمع العنيف أيضاً يمكن أن يورط النظام بشكل أكبر، فهذا الأمر سيوسع القطاعات التي ستشارك في الاحتجاج. إن أحد الأخطار هو أن متطوعي الباسيج (ومعظمهم من أبناء الطبقات الضعيفة، والجزء الآخر هم الذين يضطرون إلى التطوع من أجل الحصول على أماكن العمل) سيبدأون في التسرب من داخل المنظمة والانضمام إلى الاحتجاج.
إن شرعية النظام تضررت بشكل أكبر على خلفية الجبهة الموحدة التي عرضها علي خامنئي والرئيس حسن روحاني ورئيس الجهاز القضائي إبراهيم رايسي، فهؤلاء منحوا الدعم الكامل لقرار الحكومة لرفع الضرائب. وبهذا فإنهم عززوا الشعور بالاغتراب والعداء بين الجمهور والقيادة. في المظاهرات السابقة، وقف حسن روحاني ضد استخدام القوة مع المتظاهرين، وأعلن بأن للمواطنين حق التظاهر السلمي، بل واتهم عدداً من المؤسسات الدينية وحرس الثورة بسرقة المال العام. ولكن هذه المرة يصمت روحاني إزاء استخدام النار الحي ضد المتظاهرين والعدد الكبير من القتلى. إن الأزمة الاقتصادية العميقة، إضافة إلى غياب الدعم السياسي لتطبيق إصلاحات اقتصادية أراد تنفيذها، أدخلته إلى طريق سياسي مسدود الذي يمكن لخطوة دراماتيكية، مثل رفع أسعار الوقود، أن تساعد في إغلاق جزء من العجز الكبير في الميزانية، الذي يبلغ نحو 8 في المئة من الناتج القومي الإجمالي الخام.
عملياً، يمكن للنظام أن يتراجع عن قرار رفع الضرائب أو يطبقه بالتدريج خلال سنة، لكن تفسير هذا القرار ليس خضوعاً لمطالب الجمهور، بل هو انحراف عن سياسة “اقتصاد المقاومة” الذي وضعه خامنئي كوسيلة للتغلب على مكبس العقوبات، أي أن قمع الاحتجاج أمر حيوي أيضاً من الناحية الأيديولوجية إلى جانب السياسية. في هذه الأثناء يستند النظام إلى تجربة الماضي، وهو على ثقة بأنه سينجح هذه المرة أيضاً في قمع المظاهرات قبل تحولها إلى عصيان مدني خطير.
القدس العربي