انتهى الاتفاق الغربي مع إيرانللسياقات المتوقعة التي ذكرناها من أشهر، وهي سياقات متعلقة بقاعدة التوافق الرئيسية بين الرؤية الغربية الإستراتيجية المرحلية مع إيران في عهدها الجديد.
وهي الرؤية التي كانت تسير في خط ثابت، يعتمد حزمة التوافقات مع الجمهورية الدينية في إيران في ملفات كبرى، في العراقوسوريا، إضافة إلى قناعة الغرب بأن اضطراب الرؤية لمستقبل بلدان الخليج العربي وفقدانها الندية، لا يمكن أن يؤهلها كشريك إقليمي وهي بذاتها مهددة من سيناريوهات، تتداخل فيها جماعات العنف ومليشيات طائفية متعددة.
وقد أصبح الغرب يرى أن إيران هي القوة القادرة على التحكم في قواعد اللعبة الجديدة بالمنطقة، وبالتالي فقد اعتمدها شريكا إقليميا، ثم بدأ إدارة نزاعاته معها في هذا الإطار المرحلي، حتى تتبين مسارات التصدع الكبرى في المشرق العربي، وخيوط خرائط الخليج الجديد والجغرافيا السياسية النهائية له، والتي ستأخذ مدى كبيرا يتداخل مع أحداث وخرائط عنف، كلما انفتحت ملفات التوتر والصراع الطائفي واستمرت ملفات الفوضى الإيرانية.
ولا بد من التذكير أن اهتمام المحلل السياسي المنتمي لمنطقة الخليج العربي يتركز على قواعد اللعبة السياسية الجديدة في كل مرحلة بين الغرب وإيران، وتوافقاتها الإقليمية التي يترتب عليها بالضرورة، تعاون عسكري وسياسي مشترك كما في العراق، أو دعم كما في سوريا، أو توافق مجمل كما في الموقف من مفاوضات مسقط مع الحوثي، أو تحييد الصراع وغض الطرف كما في بعض مناطق الخليج العربي.
وليست اهتماماتنا لجدولة الشروط الفنية في مستوى التخصيب النووي، ولا مسارات تصنيعه السلمي والعسكري أولوية أمام هذه الملفات، وقد تبين للمراقب أن تل أبيب سترضخ راغمة أو راضية لهذه التوافقات، وأن الشروط الفنية وجولات الصراع الإعلامية معها، لن توقف هذه الإستراتيجيات الكبرى التي تتعامل معها تل أبيب ذاتها في سوريا والعراق توافقا مع إيران.
كما أن حصاد استخدام النفط الخليجي لنقض خيارات الربيع العربي وخاصة في مصر، بات يعطي تفاعلات مؤثرة بعد تقارب نظام الجنرال السيسي من هذه التقاطعات الإيرانية الغربية، وأثبتت التطورات أن إيران ضمنت بالفعل ضرب أحد أكبر خصومها السياسيين في العالم العربي بعزل الرئيس مرسي وضرب قوة الإقليم العربي ذات البعد السياسي والأيديولوجي، المواجه للتعبئة الطائفية الإيرانية في المنطقة، وتقاطعاتها الغربية، فضلا عن خزان العنف والتطرف الذي انفجر في المنطقة بعد اغتيال الربيع العربي.
وتقوم السياسة الإيرانية في أقانيمها الكبرى على ثلاثة محاور رئيسية منذ قيام الجمهورية الإيرانية، يختط عبرها السياسي الإيراني رحلة الصعود لمشروعها الإستراتيجي:
1- أن إيران هي الدولة الإقليمية الكبرى في المنطقة، التي تشكل هيمنتها بوابة الحضور الاقتصادي والسياسي للجمهورية والسعي لضمان تفوقها فيه.
2- إيران تمثل البعد القومي والتاريخي لميراث الإمبراطورية الفارسية وعلو قومية فارس كعرق قومي، أو دولة قومية تحتضن الفكرة الرئيسية لتسلسل الإمبراطورية والأعراق الحليفة كالعرق الأذري في إيران أو غيره.
3- والعنصر الثالث، وهو الوقود النووي المذهبي الذي صنعته إيران بتكثيف لم يشهده التاريخ الإسلامي، واستدعى مرحلة الشاه إسماعيل الصفوي 1514 وتجاوزه، كان إعادة بعث الفكرة الطائفية المركزية في المجتمع الإسلامي، وفرض تقسيمه طائفيا، عبر مظلومية للحالة الشيعية، ثم تقديم ذاتها الراعي الأبوي لهم في كل مكان، وصناعة الجسور الأيديولوجية والحركية الوثيقة.
وبالتالي ضمان ربط الوجدان بفكرة الخلاص والانتقام الأممي للمظلومية، واستثمار التكثيف للطائفية -النووية- في المجتمعات العربية والإسلامية وإعادة توظيفها سياسيا، في بلدانهم، وفرض العزلة الطائفية المقدمة على المواطنة والمشاعر الإنسانية المشتركة، في داخل الضمير، وإن تم استخدام لغة منافقة مكثفة في منابرها الإعلامية، توجه للمسلمين السنة أو لخطاب العلاقات العامة.
وهذه الأقانيم الثلاثة لا تزال تحكم مسارات التقدم الميداني للمشروع الإيراني الجديد، والذي تَوجّه لتسمية البحرين رسميا على لسان المرشد، في خطاب عام موجه من خامنئي بعد الاتفاق النووي، وأن إيران ستتقدم لدعم الحركة الشيعية فيه كطائفة تقصد تحررا كاملا من الواقع السياسي للبحرين العربية وليس حكم آل خليفة فحسب.
واعتماد البحرين بالذات للتقدم الميداني، ثم مجمل الموقف السياسي الشيعي في الكويت، واستغلال تفجيرات داعش الإرهابية لدعم قوة صعوده، وتحويله إلى شريك سياسي فاعل ومؤثر في الواقع السياسي الكويتي، تؤكده دلالات عديدة في مسيرة الاستثمار الحركي الشيعي لأحداث المنطقة والمتابعة الإيرانية الدقيقة لها.
كما أن للبحرين أيقونة خاصة لدى النظام الإيراني الإمبراطوري القديم، ونظام الثورة الدينية فيها، وهو ما يفسر حجم التعبئة الإعلامية الإيرانية التي تصورها كأرض إيرانية وأبناء شعبها من المذهب الشيعي كمواطنين أصليين لإيران.
تعود جذور هذه القضية إلى الصراع العربي الإسلامي في المنطقة مع قومية فارس ودولها على البحرين، كما أن الاستعمار الإنجليزي هيأ لهذه النظرية تاريخيا وديمغرافيا، باعتماد قاعدة التصويت على استقلال البحرين باستدعاء إرث فارسي مزعوم كمقابل للهوية العربية، ولا تزال طهران تتمسك بالمسمار الإنجليزي.
كما أن العملية السياسية التي حيدت السنّة كقوى وطنية مستقلة تشكل توازنا اجتماعيا رادعا وتقدم رؤيتها الوطنية مستقلة عن الحكم، طوال فترة الصراع مع المنظمات الشيعية، تسهم اليوم بقوة في تعزيز الزحف الميداني. وقد خسر السنة رمزية حركة الفاتح البحرينية بعد تصدعه في تكتلات عدة وانسحاب قوى شبابية وطنية، وتراجع شخصية د. عبد اللطيف المحمود، كشخصية جامعة وطنية تواجه الأزمات الكبرى، فوق الجمعيات الصغيرة الباهتة.
وهذا الواقع يعزز رؤية إيران لصناعة مسرح تفاعل وتوتر واسع في محيط ومجتمع البحرين، يقود لتغيير المعادلة بعد أحداث كبرى لصالحها، في مؤسسات الحكم مستقبلا أو مجمل الهوية السياسية للمستقبل القومي للبحرين، في حين سيأخذ التكثيف الإيراني عليها بعد الاتفاق زخما أشرس.
ويتعزز ذلك مع استدعاء موقف واشنطن القديم، من رفض دخول قوات درع الجزيرة في أحداث حركة حسن مشيمع، وكل هذه السياقات لا تؤخذ بدائرة اهتمام لذوي القرار، بل بتهوين واستخدام الضجيج الإعلامي والملاعنة المذهبية كبديل، وهو سلوك سائد في منطقة الخليج العربي، التي تعاني من غياب مشروع سياسي وطني إصلاحي، مما يجعل مواجهة إيران ميدانيا أصعب بكثير مما يتوقعه البعض.
ورغم تعثرات إيرانية عديدة في اليمن بعد معارك عدن الأخيرة، وعجز النظام في سوريا وتراجعاته، وفشل حزب الله في القلمون، فإن بقاء هذه الملفات مفتوحة دون تحقيق حسم هنا أو هناك، تجعل فرص التقدم الإيراني في الخليج العربي أكثر.
وفي نهاية الأمر، وحين تتغير المعادلة، فإن الغرب قد اتخذ قراره للمرحلة الحالية تحت عنوان واضح “تقاسم مع إيران لا حرب”، كما بدأت أطراف خليجية بالفعل تعتمد وكيل الغرب الإيراني.