هدنة واشنطن والطالبان: شاهد جديد على عقم غطرسة القوة

هدنة واشنطن والطالبان: شاهد جديد على عقم غطرسة القوة

رغم مقتل جنديين أمريكيين مؤخراً في أفغانستان، فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لم يعلّق هذه المرة مشروع الهدنة المؤقتة مع الطالبان كما فعل في أيلول/ سبتمبر رداً على هجوم انتحاري أودى يومذاك بحياة جندي أمريكي. ومن المعروف أن مباحثات بين المبعوث الأمريكي زلماي خليل زاد والطالبان تتواصل منذ أواخر العام 2018 في قطر، وتستهدف التوصل إلى اتفاق دائم يسفر عن سحب القوات الأمريكية من أفغانستان، وإطلاق حوار أفغاني ـ أفغاني يمهد لحل سياسي طويل الأمد.
وحتى ساعة كتابة هذا التعليق كان الجانبان قد توصلا بالفعل إلى اتفاق لخفض العنف مدته أسبوع، يُنتظر أن يوضع على محك التطبيق الفعلي وتقول المؤشرات الأولى أنه قد يصمد بالفعل، بالنظر إلى قرار ترامب إبرام اتفاق مع الطالبان يتيح له التبجح بإعادة نحو 12 ألف عسكري أمريكي من أفغانستان إلى أسرهم في أمريكا، الأمر الذي يرى الرئيس الأمريكي أنه أحد الأوراق الرابحة في معركته للفوز بولاية رئاسية ثانية في انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر المقبلة. ومن المرجح أيضاً أن يستغل ترامب نجاح الاتفاق مع الطالبان للتفاخر بأنه أنهى حرباً دامت 19 سنة، سقط خلالها أكثر من 2000 قتيل أمريكي، وفشل سلفاه جورج بوش الابن وباراك أوباما في وضع حدّ لها.
فإذا تمكن الفريقان من التوصل إلى اتفاق سلام يسفر بالفعل عن انسحاب القوات الأمريكية، فإن المفارقة تبقى صارخة حول فشل الولايات المتحدة في تحقيق غالبية الأهداف التي توختها من التدخل العسكري في أفغانستان، والانخراط في حرب تُعدّ الأطول على امتداد التاريخ الأمريكي. فلا هي نجحت في طرد الطالبان من البلد، بل ها هي توشك على الاعتراف بشرعية سلطتهم في مناطق تقارب نصف مساحة أفغانستان، ولا هي أوفت للشعب الأفغاني بوعودها حول الديمقراطية والحكم الرشيد والتعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان وتمكين المرأة. وكل ما تفاخر به هو اغتيال أسامة بن لادن ولكن على أرض باكستانية، والزعم بتصفية «القاعدة» ولكن مع استيلاد الشروط التي أعادت إنتاج المنظمة في عشرات البلدان خارج أفغانستان.
كذلك فإن الولايات المتحدة تتوهم إمكانية إحلال السلم الأهلي بين الأفغان أنفسهم بعد انسحاب الأفواج الأمريكية، ومعها قوات الحلف الأطلسي بالتالي، لأن المشهد الداخلي الأفغاني هو في الأصل شديد التعقيد جغرافياً وإثنياً وسياسياً وقبائلياً، وقد ازداد تعقيداً مع التدخل العسكري الأمريكي ثم الأطلسي. ومن أولى علائم هذا التعقيد على صعيد الحكومة الأفغانية أن الصراعات لا تزال مستعرة بين القوى السياسية حول الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي لم يُعلن الفائز فيها حتى بعد انقضاء أربعة أشهر على تنظيمها. علائم الخلاف تنسحب على الطالبان أنفسهم، إذ لا يتوافر إجماع في صفوف الحركة حول الاطمئنان إلى الولايات المتحدة أو جدوى عقد اتفاق معها، فما بالك بالتفاهم حول النقاط الكثيرة المعلقة مع الحكومة المركزية وفي طليعتها مستقبل البلد السياسي والتلاؤم بين الدستور والشريعة الإسلامية ومصير الآلاف من الأسرى والسجناء.
وفي كل حال تبقى حرب أمريكا في أفغانستان نموذجاً صارخاً على الفشل الذريع الذي مُنيت وتُمنى به خيارات مختلف الإدارات الأمريكية في ممارسة العربدة العسكرية، والنماذج الأخرى في العراق وقبلها فيتنام شاهدة بدورها على عقم غطرسة القوة.

القدس العربي