الولايات المتحدة و ثلاث مصالحات تاريخية

الولايات المتحدة و ثلاث مصالحات تاريخية

3774

يتضمن التاريخ السياسي الأمريكي الحديث في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية ، ثلاث مواجهات كبري بين الولايات المتحدة وكل من الصين وفيتنام وكوبا، استثمرت فيها هذه القوة العظمى قدراتها المادية و البشرية، وجرت العالم إلى مواجهة احتمالات اندلاع حرب نووية. لكن، وبعد عقود من المواجهات، اختارت الولايات المتحدة التصالح مع هذه الدول، حتى ارتفع مستوى العلاقات معها إلى درجات متفاوتة من الشراكة و الاعتماد المتبادل. دخلت الولايات المتحدة في مواجهة حادة مع الصين الشعبية بعد وصول الحزب الشيوعي الصيني للحكم ودخول الصين في تحالف مع الاتحاد السوفييتي. ثم انغمست الولايات المتحدة بتكلفة عالية في الصراع بين فيتنام الشمالية، التي تحالفت مع الاتحاد السوفيتي، وحليفتها فيتنام الجنوبية. وكانت المواجهة الكبرى الثالثة مع الثورة الكوبية التي قادها فيدل كاسترو، والذي تحالف مع الاتحاد السوفيتي ، حيث استمرت القطيعة بين البلدين 60 عاما. سوف يستعرض هذا المقال المواجهات الثلاثة كيف بدأت و كيف تطورت عبر هذه العقود من ” الصدام و المواجهة ” إلي ” المشاركة والتعاون “، وهي تجارب قد تمثل نموذجا يحتذى فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية- الإيرانية.

 المواجهة مع جمهورية الصين الشعبية

منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، واجهتها الولايات المتحدة بالعداء و المقاطعة و الحصار الاقتصادي و العزل عن المجتمع الدولي و الاعتراض علي توليها مقعدا في مجلس الأمن، بعد أن كانت تشغله  تايوان التي حظيت بالتأييد الأمريكي. ثم تصاعد هذا العداء بعد انضمام  الصين الشعبية إلي المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفيتي، فضلا عن دورها في الحرب الفيتنامية ودعمها لنظام كوريا الشمالية. لكن بالرغم من هذا العداء ، كانت  هناك بعض الرؤى داخل الولايات المتحدة ترى أنه يجب تغيير  السياسة  الأمريكية تجاه الصين، وهو الاتجاه الذي تم تدعيمه بخروج الخلاف الصيني –  السوفيتي إلى العلن، و هو ما عبر عنه هنري كيسنجر بقوله  في ذلك الوقت أن ” أعمق صراع دولي في عالم اليوم ليس بين الولايات المتحدة والصين، وإنما بين الصين و الاتحاد السوفيتي.

وقد عمل الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للبناء على هذا التصور، وبدا منذ مجيئه إلي الحكم مصمما أن لا يضيع فرصة لتحسين العلاقات مع الصين، وهو ما تجسد في زيارته للصين الشعبية في فبراير 1972 ، كبداية لعملية ممتدة من التطبيع الكامل للعلاقات ، بلغت ذروتها في عهد الرئيس الأمريكي كارتر عام 1978 . ورغم اختلاف السياسة الأمريكية مع الصين بشدة حول عدد من القضايا، ومنها الحريات السياسة، و حقوق الإنسان، و قضية تايوان، إلا إن الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين  تمسكوا جميعا بما يسمي سياسة التفاعل engagement  مع الصين، والعمل على بناء علاقات تعاونية معها في عدد من المجالات الحيوية.

وعلى الجانب الصيني، يرى الكثير من المحللين و الباحثين أن  العلاقات المشتركة بين البلدين  قد حققت طفرة تاريخية علي مدار الأعوام الخمسة والثلاثين عاما الماضية. ففي عام 1979 كان حجم التجارة السنوية بين البلدين مجرد 2.45 بليون دولار بينما قفز في عام 2013 إلي أكثر من نصف تريليون دولار، في عام 1979 لم يتعد الزوار من البلدين بضعة آلاف ، بينما بحلول عام 2011،  اقترب  العدد من 4 مليون.  ولا يمكن مقارنة حجم التعاون وكثافة العلاقات بين البلدين في عام 1979  بما وصلت إليه اليوم. يتشاور البلدان اليوم بشكل وثيق حول عدد كبير من القضايا والأزمات العالمية، مثل: التغير المناخي و أمن الطاقة  و أمن الغذاء ، و كذلك حول النقاط الساخنة في النظام الدولي مثل:  كوريا الشمالية ، و البرنامج النووي الإيراني و الأزمة في سوريا. وهو ما حدا بالرئيسين شي جين بينغ و أوباما ، في لقاء لهم  عام 2013  بالحديث عن  بناء ” نموذج جديد” للعلاقات بين القوي الكبرى. (3)

وقد حلل ستيفن هادلي، مستشار الأمن القومي السابق، في منتدي السلام العالمي الذي عقد في بكين في 21 يونيو 2014،  العلاقات بين البلدين من زاوية النمط التقليدي لعلاقات الدول الكبرى في  مراحل تحول القوة، أي ظهور قوة  كبيرة علي المسرح الدولي  تنازع القوة المهيمنة على السيطرة والنفوذ ما كان ينتج عنه في العادة مواجهة و صراع بين القوتين. ويعتقد هادلي أن  الرئيسين الأمريكي و الصيني بتبنيهم مفهوم “النموذج الجديد” للعلاقات الصينية الأمريكية  يريدون تفادي تكرار  المواجهات الدموية التاريخية، مثل المواجهة بين ألمانيا الصاعدة والمملكة المتحدة المهيمنة، والتي كانت في رأي العديد من المحللين السبب في اندلاع الحرب العالمية الأولى. ويرى هادلي  أن تفادي الصراع بين الولايات المتحدة و الصين ممكنا لأنه ليست بين البلدين نزاعات إقليمية ولا لأي منهما أطماع استعمارية يتنافسان عليها ، كما أن  الولايات المتحدة لم تحاول أن تعرقل الصعود الصيني، بل ساعدت عليه  من خلال  تنشيط التجارة و الاستثمار، و تأييد انخراط الصين دبلوماسيا على المسرح العالمي. من ناحية أخرى، فدرجة التداخل والاعتماد المتبادل  بين البلدين على الصعيد المالي و الاقتصادي  والتجاري هي أعلى مما كانت بين أي دولتين في وضع مشابه تاريخيا. كما يشترك البلدان  في عضوية العديد من المنظمات مثل : مجلس الأمن و منظمة التجارة العالمية وغيرها، وكلها  تقدم طرقا لحل المنازعات بدون الحاجة إلي اللجوء إلي مواجهات القوة العسكرية. وفي النهاية يبني  هادلي تفاؤله  الحذر  على أن مصلحة كل من البلدين تملي عليهما تجنب الدخول في مواجهة، لأنهما يواجهان كما كبيرا من التحديات العالمية التي لن يستطيع أيا منهما مواجهتها بمفرده، بل هما يحتاجان للتعاون معا.

 المستنقع الفيتنامي

تعود علاقات الولايات المتحدة  الدبلوماسية مع فيتنام  إلى عام 1950، لكنها سرعان ما انهارت بعد عام 1954 ، حين حارب الوطنيون الفيتناميون من أجل الاستقلال الكامل وهزموا فرنسا، والذي تبعه انقسام فيتنام إلى الشمال والجنوب، ودخولها في عقود من الحرب الأهلية.  لم تعترف الولايات المتحدة بحكومة فيتنام الشمالية و أخذت جانب فيتنام الجنوبية، ثم تصاعد تدخلها العسكري  لدرجة انغماسها  في ما يُعرف ب ” المستنقع الفيتنامي” . خسرت الولايات المتحدة قرابة  59,000 جندي خلال انخراطها في هذه الحرب،  كما أثار هذا التدخل انقساما عميقا في الداخل الأمريكي، وأثر بالسلب على صورتها في الخارج.

لكن بحلول عام 1995 ، أعلنت الولايات المتحدة تطبيع  العلاقات  مع فيتنام. حيث يحتفل البلدان في هذا العام  ، بمرور 20 عاما علي  عودة هذه العلاقات. وفي يوليو 2013 أطلق كلا من الرئيس الامريكي أوباما، و الرئيس الفيتنامي ترونغ تان سانغ  مشروع شراكة وضع إطارا شاملا لتطوير هذه العلاقات، كما اطلقت مبادرات جديدة لدعم العلاقات وتؤكد الالتزام الأمريكي بسياستها في التوجه إلي منطقة آسيا باسيفيك. وفي التقدير الأمريكي اليوم أن الشراكة الجديدة تقدم آلية لتسهيل التعاون في مجالات سياسية و دبلوماسية و تجارية و اقتصادية و العلوم و التكنولوجيا و التعليم و السياحة، وفي إطار هذه المشاركة اصبحت فيتنام شريكا في قضايا مثل منع الانتشار، و محاربة الإرهاب.

ومن ناحيتها، فإن فيتنام راغبة في تطوير العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل الوصول إلي السوق الأمريكي، ولأنها بحاجة للدعم الأمريكي لموازنة  النفوذ الصيني المتنامي في شرق آسيا. وقد امتد التعاون بين البلدين إلى مجال حساس وهو مجال الطاقة النووية ، حيث رفع أوباما إلى الكونجرس في عام 2014 اتفاقية للتعاون الأمريكي – الفيتنامي في مجال الطاقة النووية والتي وفقا لها سوف تستطيع الولايات المتحدة  أن تنقل إلى فيتنام معلومات ومعدات تتعلق بهذا المجال.

وقد عبر جون كيري وزير الخارجية الأمريكي عن تصميم البلدين على تجاوز تاريخهما التصادمي بقوله أنه لا يعتقد أن هناك دولتين قد عملا بشكل أقوى  ليغيرا كل من التاريخ و المستقبل،  من الولايات المتحدة و فيتنام”، وهو ما أكد عليه أيضا  رئيس الوزراء الفيتنامي.

الأزمة الكوبية 

في عام 1961 قطعت الولايات المتحدة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا و بدأت تمارس عمليات سرية للإطاحة بكاسترو و نظامه، حيث نظمت وكالة المخابرات المركزية ما عرف بغزو “خليج الخنازير”  وهو ما أضر بالعلاقات و أدي إلي توجه كوبا إلي الاتحاد السوفيتي ، حيث عقدت اتفاقا سريا مع موسكو لإقامة قواعد صواريخ في الجزيرة ، وهو ما اكتشفته الولايات المتحدة عام 1962، ما أطلق مواجهة دامت 14 يوما كادت أن تجر كل الأطراف إلى  حرب نووية. ومنذ هذا التاريخ و الولايات المتحدة تفرض المقاطعة والعقوبات الاقتصادية علي كوبا وهو ما قدرته التقديرات الكوبية  أنه أنزل خسائر كوبا تقدر ب 1,12 ترليون دولار .

غير أنه بعد 54 عاما من العداء و الخصومة جاء باراك أوباما لكي يطبق  الوعد الذي  قطعه على نفسه، بأن  ” يمد يده للخصوم “، حيث صافح راؤول كاسترو الرئيس الكوبي في قمة الأمريكتين 10-11 إبريل 2015. وعقب القمة أزالت الولايات المتحدة كوبا من قائمة الدول الداعمة للإرهاب ، كما أعلن أوباما أن الولايات المتحدة لم تعد معنية بفرض إرادتها علي كوبا، و أن من المأمول أن روابط التجارة، و السياحة و السفر بين البلدين سوف تحسن  العلاقة بينهما حتى يتم استعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة.

ولكن بعد عقود من  الخصومة ، فهناك انقسام داخل الولايات المتحدة   حول  هذا التحول . فهناك الذين يساندونه، ويجادلون أن الحصار ليس إلا بقايا الحرب الباردة وأنه لم ينجح في الإطاحة بنظام كاسترو، بالإضافة إلي إن العقوبات قد أضرت  بالشعب الكوبي وأيضا بالاقتصاد الأمريكي . أو كما قال  نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي بن رودس  ” أن سياستنا تجاه كوبا، بدلا من عزل كوبا  قد عزلت  الولايات المتحدة نفسها في ساحتها الخلفية” . غير أنه في المقابل هناك الكثيرون الذين يعارضون سياسة أوباما، و يجادلون بأنه يجب أن تلبي كوبا المطالب الأساسية ، من إفراج عن المعتقلين السياسيين و فتح الباب أمام النشاط السياسي و عقد انتخابات حرة، السماح بحريه الصحافة واحترام حقوق الإنسان و السماح للنقابات بتنظيم أنشطتها، قبل أن “تطبع” الولايات المتحدة العلاقات معها.

ولكوبا اعتباراتها في تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة، حيث منعتها العقوبات الاقتصادية الأمريكية   من  الحصول علي رأس المال أو التكنولوجيا المتقدمة من الولايات المتحدة و لا تستطيع أن تصدر للولايات المتحدة، ويقدر أن العقوبات الأمريكية علي كوبا عبر نصف القرن الأخير قد تسببت في خسائر اقتصادية كبيرة . ورغم هذا بدا التحفظ الكوبي علي العلاقة الجديدة في قول الرئيس الكوبي في قمة الأمريكتين ” أننا مستعدون أن نناقش كل شيء، و لكن نحتاج أن نتحلى بالصبر و أن تكون هادئين جدا” .

الحالة الإيرانية

هل تذكر هذه المواجهات الأمريكية التي تحولت إلي شراكة و تعاون بالعلاقات لأمريكية الإيرانية التي تميزت بالخصومة منذ اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، وتصاعدت في الجدل حول البرنامج  النووي الإيراني، الذي تعتبره الولايات المتحدة و حلفائها ، تهديدا لأمنها بل و أمن العالم؟ هل ستتحول العلاقة بين البلدين لتأخذ شكلا مختلفا بعد التوصل إلي اتفاق إطاري في مارس 2015، من المفترض أن يتطور إلي اتفاق نهائي  خلال أسابيع؟ وهل سيتكرر نمط  التحول الأمريكي في حالات الصين، وفيتنام، و كوبا من الصدام و المواجهة إلي الشراكة و التعاون، في العلاقات الأمريكية الإيرانية؟ قد يلاحظ المتابعون لعلاقات الولايات المتحدة مع الصين، وفيتنام و كوبا أن التحول  قد حدث بعد عقود طويلة، فهل سيستغرق تحول العلاقات بين إيران  والولايات المتحدة عقودا أيضا؟

في هذا السياق، قد يكون مما له دلالة حول المستقبل الرسالة التي وجهها محمد جواد ظريف تحت عنوان ” رسالة من إيران”  يقول فيها : أن رؤيتنا للتفاعل البناء Constructive Engagement  تتعدي المفاوضات النووية فثمة مناطق عديدة تتداخل فيها مصالح إيران و الشركاء الرئيسيين. فهل يعني هذا إشارة من إيران عن إمكان التعاون في مجالات إقليمية و دولية تتعدي برنامجها النووي، وهو ما قد يمهد لعملية قد تكون طويلة تشبه ما حدث مع الصين، وفيتنام و كوبا؟

يتصل بهذا حديث باراك أوباما المطول- الذي أجراه مع توماس فريدمان عندما سأله الأخير عما إذا كانت هناك قواسم مشتركة لقراراته في كسر سياسات أمريكا في عزل دول مثل بورما، كوبا و الآن إيران، حيث قال أوباما أن  التفاعل “engagement”  مع هذه الدول أفضل بكثير من العقوبات التي لا نهاية لها وفرض العزلة عليها، مضيفا أن أمريكا يجب أن يكون لديها الثقة بالنفس لكي تتخذ بعض الأخطار المحسوبة من أجل فتح مسارات جديدة . فهل يراهن أوباما بذلك أن التفاعل و التعاون مع إيران سوف يساعد في إدماجها – كما الصين- في النظام الدولي ،  ويضع نهاية لمفاهيمها الثورية ؟

List of References: 

1- Henry Kissinger. “ The White House Years. 1979.

2- David Landau. Kissinger :the uses of power. 1974

3- Foreign Affairs Journal . 111th issue. Spring 2014.

4- Ibid

5- Ibid

6- U.S. State Department. Bureau of East Asian and Pacific Affairs. February 11, 2013.

7- Congressional Research Service. U.S. Vietnam Relations. June 2014

8- CSIS “ A New Era in U.S. Vietnam relations” . June 2014.

9- John Garoly. Foreign Policy Group.October 1, 2014 .

10- Council on Foreign Relations. U.S- Cuba Relations. April15, 2015.

11- Ibid

12- The Economist. March 2015.

13- The Independent. April 22, 2015.

14- Jiang Shixue. “Improvements in U.S.- Cuba relations and their implications”. China International Studies.Jan- Feb,2015

15- Jiang Shixue. Ibid

16- The Guardian. April, 2015.

17- Mohamed Jauad Zarif. “A message from Iran “. The New York Times. April 20, 2015.

18- Thomas Friedman. “Iran and Obama Doctrine”. The New York Times. April 5, 2015.

د.السيد أمين شلبي

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية