لا تخفي الصين رغبتها في إزاحة الولايات المتحدة وحلفائها عن الريادة العالمية في مجال ابتكار وتطوير الأجيال الجديدة من التكنولوجيا، وتشكل الخطوة ردا قويا على الجهود المتصاعدة التي تبذلها واشنطن لكبح التقدم التكنولوجي لبكين، فمنذ تمرير قانون الأسواق الرقمية الأوروبي الجديد تدرس الصين فرص اقتناص الريادة في مجال الابتكار من الدول الغربية.
واشنطن – في ظل النمو السريع وغير المسبوق لدور التكنولوجيا في الحياة اليومية للبشر وازدهار الاقتصاد الرقمي، وسيطرة الشركات الأميركية العملاقة مثل فيسبوك وأمازون وغوغل على هذا التطور، بدأت السلطات التشريعية والتنظيمية في أغلب دول العالم التحرك لمواجهة هذه التطورات، من خلال إقرار قواعد صارمة على كبرى الشركات الأميركية في عالم التكنولوجيا.
وفي تحليل نشرته مجلة ناشونال إنتريست الأميركية قال روبرت أوبراين وهو مستشار سابق للأمن القومي الأميركي، وشيجيرو كيتامورا وهو مستشار سابق للأمن القومي الياباني إن أي تطبيق تغييرات جذرية في سياسات قطاع التكنولوجيا سريع التطور يكون مصحوبا بمخاطر كبيرة، والعديد من العواقب غير المقصودة، كما أن الإفراط في فرض القيود على أنشطة شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى التي تشكل الاقتصاد الرقمي العالمي وتدعم وظائف لا حصر لها لن يضر فقط بهذه الشركات، وإنما يمكن أيضا أن يقوض الأمن القومي والاقتصادي للدول التي تطبق هذه التغييرات.
وأصبح قانون الأسواق الرقمية الذي أقره الاتحاد الأوروبي وبدأ تطبيقه منذ بداية العام الحالي نموذجا دوليا لتنظيم قطاع التكنولوجيا والأسواق الرقمية. ولكن مستشاري الأمن القومي الأميركي والياباني السابقين أوبراين وكيتامورا يريان أن هذا القانون عبارة عن سلسلة من التدابير الهدامة قصيرة النظر وستكون مضاره أكثر كثيرا من فوائده.
ويصنف القانون الأوروبي عددا قليلا من شركات التكنولوجيا العملاقة وأغلبها أميركية باعتبارها “حارس بوابة”، لأنها تتحكم بصورة غير عادلة في أسواقها نظرا لنفوذها الضخم في السوق الرقمية وتحد من القدرة التنافسية للشركات الأصغر. ولذلك يفرض هذا القانون قيودا وتنظيمات إضافية على هذه الشركات. في المقابل، فإن شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة التي تنافس الشركات الأميركية مباشرة، ما زالت بعيدة عن تأثير هذا القانون إلى حد كبير.
ومنذ تمرير قانون الأسواق الرقمية الأوروبي، تدرس بريطانيا واليابان والولايات المتحدة إصدار قوانين مماثلة. كما تدرس دول أخرى مثل تركيا والبرازيل وكوريا الجنوبية النموذج الأوروبي. والقاسم المشترك بين كل هذه القوانين المقترحة هو نظرية “حارس البوابة” في التعامل مع الشركات العملاقة. وإذا تحولت هذه الاقتراحات إلى قوانين سارية المفعول، فستكون لها تداعيات خطيرة على الريادة التكنولوجية الغربية للعالم وعلى الأمن القومي والاقتصادي المشترك للدول الغربية.
في المقابل، فإن الصين لا تخفي رغبتها في إزاحة الولايات المتحدة وحلفائها عن الريادة العالمية في مجال ابتكار وتطوير الأجيال الجديدة من التكنولوجيا. وتعتقد بكين أن الريادة التكنولوجية مكون حيوي في قوتها القومية وشرطا مسبقا مهما لتعزيز نفوذها في الشؤون الدولية.
وتستهدف مبادرة “صنع في الصين 2025” التي أطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ بشكل دقيق زيادة قوة بلاده. وتدفع الصين شركاتها المحلية التكنولوجية والصناعية لاقتناص الريادة العالمية في مجال الابتكار من الدول الغربية.
آخر شيء يحتاجه الغرب في ظل هذه المنافسة الضارية مع الصين من أجل السيطرة التكنولوجية على العالم هو فرض المزيد من الأعباء والقيود التشريعية
ويرى أوبراين وكيتامورا أن آخر شيء يحتاجه الغرب في ظل هذه المنافسة الضارية مع الصين من أجل السيطرة التكنولوجية على العالم هو فرض المزيد من الأعباء والقيود التشريعية على الشركات الغربية العملاقة مما سيحد من قدرتها على منافسة الشركات الصينية التي تحظى برعاية الدولة وحزبها الشيوعي الحاكم.
علاوة على ذلك، فإن الشركات الأميركية وغيرها من الشركات الغربية التي يستهدفها قانون الأسواق الرقمية الأوروبي، لا تشكل فقط مسار الابتكار وإنما تضع أيضا معايير حماية الخصوصية والأمن لقطاع التكنولوجيا على مستوى العالم. وإذا تم تدمير هذه المعايير، سيفتح الباب أمام تصاعد غير مسبوق لهجمات القرصنة الرقمية ومحترفي اختراق الشبكات من روسيا والصين والذين يستخدمون كل الوسائل المتاحة لسرقة بيانات مواطني الدول الغربية. وسيزيد عدد الجرائم السيبرانية الذي وصل بالفعل إلى مستويات قياسية، عندما تضطر شركات التكنولوجيا الغربية العملاقة للحد من رقابتها على تطبيقات الشركات الأخرى للكشف عما يمكن أن يكون فيها من أدوات تجسس.
الاتحاد الأوروبي يخلق بيئة تشريعية تسهل على الشركات الصينية اللحاق بالشركات الغربية والتفوق عليها في قطاع التكنولوجيا
ورغم أن قانون الأسواق الرقمية والسياسات الشبيهة حول العالم تستهدف تشجيع الابتكار والمنافسة في السوق الرقمية، فإنه في الواقع يؤدي إلى العكس بحسب مسؤولي الأمن القومي السابقين الأميركي والياباني، فالشركات الأشد تضررا من هذا القانون قد تكون أكبر المبتكرين في العالم. كما أنها هي التي تقدم أحدث المنتجات وتمتلك الموارد الضرورية للبحث والتطوير لتنمية ونشر التكنولوجيات الجديدة.
هذه الشركات هي أفضل أمل للدول الغربية من أجل المحافظة على تفوقها التكنولوجي المشترك على الصين. ولكن الاتحاد الأوروبي يخلق بيئة تشريعية تسهل على الشركات الصينية اللحاق بالشركات الغربية والتفوق عليها في قطاع التكنولوجيا، وهو ما ستكون له تداعياته في كل مجالات تنافس القوة بين الغرب والصين.
وأشار أوبراين وكيتامورا إلى أن الأمن القومي للدول الغربية سيكون على المحك إذا تم السماح لشركات التكنولوجيا الصينية الخاضعة لسيطرة الحزب الشيوعي الصيني بالسيطرة على أسواق الغرب وتدمير اقتصاده. المثير للقلق أن الاتحاد الأوروبي والدول الغربية الأخرى الراغبة في السير على خطاه تبدو راضية عن سيطرة شركات أكبر خصم جيوسياسي للغرب على سوق التكنولوجيا في العالم، رغم أن هذه الشركات نادرا ما تحترم القوانين والأعراف الدولية، في الوقت الذي تحارب فيه الشركات الغربية الكبرى في هذا المجال بدعوى حماية حرية المنافسة واحترام القواعد العالمية.
ويحمل القانون الجديد في طيّاته ثورة على صعيد المنافسة، بعد سنوات من إجراءات طويلة وغير مجدية في كثير من الأحيان لمحاولة وضع حد للممارسات المناهضة للمنافسة من جانب عمالقة الإنترنت.
ويحدد قانون الأسواق الرقمية الجديد (دي.أم.أي) سلسلة التزامات ومحظورات لوقف إساءة استخدام المركز المهيمن بهدف الحد من المنافسة، وذلك لزيادة التنافسية في السوق ومساعدة الجهات الصغيرة على التقدم.
ويرغب الاتحاد الأوروبي في فتح الأسواق الرقمية على المنافسة التامة، وحماية ظهور الشركات الناشئة في أوروبا ونموها وتحسين الاختيارات المتاحة للمستخدمين.
وتأمل السلطة التنفيذية الأوروبية أن توفر القواعد الجديدة سلاحا قانونيا يخوّلها التصدي للانتهاكات.
وبموجب القانون الذي دخل حيز التنفيذ في السابع من مارس الجاري، يتعين على ست شركات تقدم خدمات مثل محركات البحث والشبكات الاجتماعية وتطبيقات الدردشة التي تستخدمها شركات أخرى الامتثال للتوجيهات لضمان تكافؤ الفرص للشركات المنافسة ومنح المستخدمين مزيدا من الخيارات.
وقد تؤدي الانتهاكات إلى غرامات تصل إلى عشرة في المئة من إجمالي الإيرادات السنوية للشركات على مستوى العالم.
إذ ينص القانون الجديد على فرض غرامات تصل إلى 10 في المئة من إجمالي الإيرادات التي تحققها الجهات المخالفة عالمياً، أو حتى 20 في المئة في حالة تكرار المخالفة، والتهديد بحلّ هذه الشركات كملاذ أخير.
وأكدت المفوضة الأوروبية لشؤون المنافسة مارغريته فيستاغر “أننا سنواصل استخدام كل الأدوات المتاحة” في حال عدم احترام موجبات قانون الأسواق الرقمية.
العرب