أفول الريع النفطي يهدد العقد الاجتماعي الروسي

أفول الريع النفطي يهدد العقد الاجتماعي الروسي

568a171ff2e10

عالم الاقتصاد النفطي يأفل. هذا الشعور يعم روسيا، وما على متقصّيه إلا أن يزور المنتدى الاقتصادي غايدار في موسكو بين 13 و 15 الشهر الجاري. «كما حصل لدى أفول العصر الحجري، وهو لم ينتهِ بسبب نضوب الحجر، العصر النفطي انتهى… ووجدنا أنفسنا في معسكر الدول الخاسرة التي لم تملك الوقت لتكييف اقتصاداتها (مع التغيير)… فالمستقبل حلّ مبكراً على حين غفلة. «ولكام تو ذي فيوتشر» (فأهلاً بكم في المستقبل)»، قال جيرمن غريف، رئيس سبيربنك، أكبر بنك روسي، ووزير التنمية الاقتصادية السابق (2000-2007) وأكبر دعاة انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية في 2012.

في مثل هذه المنتديات، درج المشاركون من النخب الروسية المالية والسياسية على مناقشة شؤون «الأزمة»، لكن كلمات المشاركين تغيّرت. «لم نبلغ الأسوأ بعد، لكن الحال يظهر أن الدول المصدرة للنفط باتت قاب قوسين من خسارة عائداتها. وعوض المواد الأولية التقليدية، ستبرز مصادر طاقة بديلة والحاجة إلى النفط ستأفل»، قال أليكسي أوليوكاييف، وزير التنمية الاقتصادية الروسي، في سياق تشخيص الأزمة في حلقات المنتدى. ولم يغرّد رئيس الوزراء ديمتري مدفيديف خارج سرب هذه الآراء، إذ قال: «إذا واصلت أسعار النفط الانخفاض (…) يُنتظر الأسوأ»، أي نهاية الريع.

أفول الريع والطبقة الوسطى

ودفع احتمال نهاية الريع ونتائجه مجلس أمن الفيديرالية الروسية إلى تعديل الأولويات الاستراتيجية التي أقرها الرئيس فلاديمير بوتين في 31 كانون الأول (ديسمبر) الماضي. وفي صدارة هذه الأولويات كانت أخطار مصدرها حلف شمال الأطلسي. وفي بيان نشره موقع المجلس في 19 كانون الأول 2015، أعلن نائب المجلس، سيرغي فاخروكوف، بعض «التعديلات (على الأولويات الروسية)»، ومنها إعلاء شأن خطر اختلال نظام الموازنة العامة الروسية، وهشاشة النظام المالي الوطني. وعلى رأس مجلس أمن الفيديرالية، رئيس الكرملين مديره المقرب من بوتين، نيقولاي باتروشيف الذي دعا إلى تقليص هوة اللامساواة الإقليمية (الداخلية) في التنمية الاقتصادية بين «كيانات» الفيديرالية البالغ عددها وفق موسكو 86 كياناً بعد ضم القرم. «حري بنا إعداد العدّة للتطورات في سوق المواد الأولية»، قال بوتين أكثر من مرة أمام حكومته. وهبط سعر برميل النفط الى أدنى من عتبة 30 دولاراً. ويفاقم رفع العقوبات الدولية عن إيران، الحليف لروسيا التي تأمل موسكو بأن تبرم معه عقوداً مجزية، اضطراب سوق النفط، فطهران ترغب في زيادة إنتاجها النفطي. لكن المحروقات شطر راجح من العائدات الروسية، وموازنة 2016 الروسية تتشظى وتنهار على وقع هبوط سعر النفط، إذ صيغت بافتراض 50 دولاراً سعراً لبرميل النفط، وحدّدت النفقات والمشاريع العامة بالاستناد إلى العائدات المفترضة، وتوقع الرئيس الروسي أن يبلغ العجز 3 في المئة. وتراجع سعر الروبل، وهو بلغ قبل أيام 79 روبل مقابل دولار واحد. ومنذ مطلع العام، خسر مؤشر «آر تي أس» في بورصة موسكو، وهو مرتبط بالدولار، 15 في المئة من قيمته. وغير الميسورين هم الأكثر تضرراً من ارتفاع التضخم (من 12 الى 15 في المئة عام 2015)، وانخفاض العائدات، والكساد الذي وقعت فيه روسيا قبل عام. وبلغ عدد الروس تحت خط الفقر 20.3 مليون نهاية 2015 (14.1 في المئة من السكان)، بعد أن كان 18 مليوناً قبل سنة. «الفقر أصاب شطراً كبيراً من الروس، وقوّض الطبقة الوسطى»، كما قال مدفيديف. وفي المحافظات أو الكيانات الإدارية، يصف مجلس أمن الفيديرالية الروسية المشكلات بـ «التباينات الإقليمية». ومترتبات هذه التباينات تتعاظم على وقع تفاقم صعوبات تعود إلى الأعوام الثلاثة الماضية إثر هبوط أسعار النفط، «ففي 2013، وقعت 70 محافظة روسية (من 85 محافظة في الفيديرالية الروسية) في عجز مالي، وأصاب العجز 75 محافظة في 2014، وسبحته تكرُّ إلى اليوم…»، تقول نتاليا زوباريفيتش، مديرة دراسات المناطق في المعهد المستقل للسياسات الاجتماعية. «ففي 51 محافظة من المحافظات الروسية، تزيد نسبة الدَّيْن عن حجم نصف العائدات. وترتفع نسبته الى 70- 95 في المئة في 21 محافظة، وتفوق نسبة الدين العائدات في 4 من المحافظات»، تقول الباحثة. وتمسك السلطات المركزية الفيديرالية بمقاليد موازنات المحافظات، وتتولى توزيعها عليها بواسطة عمليات نقل مالي. ولكن تعود إلى المناطق مسؤولية تأمين الإنفاق الاجتماعي ورواتب الموظفين في قطاعي التعليم والطبابة، وكلفة النقل أو البنية التحتية.

العقد الاجتماعي مهدد

ونجم عن هذه الحال «تقليص 41 منطقة الإنفاق على التعليم، و42 منها الإنفاق في القطاع الثقافي، و18 منها نفقات الطبابة…»، تقول زوباريفيتش. وتجمع المدارس في مدرسة، وتتعاظم وتيرة التأخر في تسديد الرواتب في القطاعين الخاص والعام. وهذه الحال ساهمت في زعزعة الوضع الاجتماعي والسياسي في المناطق الشهر المنصرم، كما أوردت جريدة «كومرسنت» في عرضها نتائج دراسة أعدها صندوق بيتربورغاسكايا بوليتيكا.

وخلصت إلى أن تأخُّر الرواتب يتفاقم منذ 2012. فمذَّاك برزت مؤشرات الى خبو النمو، وتزامن هبوط أسعار النفط مع انعقاد ثمار العقوبات الدولية التي كبّدت روسيا خسائر قيمتها 25 بليون يورو في 2015، تقلب أحوال البلاد رأساً على عقب في وقت لا بديل من المال النفطي.

ويبدو أن العقد المضمر بين الكرملين والروس، ومفاده عيش ميسور وحريات أقل، مهدد. ولا شك في أن بإمكان روسيا التعويل على قدرة شعبها على الصمود، على نحو ما فعل في مراحل حساسة في 1998 و2008. ولكن في هذه المرة، يُجمع الخبراء على أن الأزمة طويلة الأمد وغامضة، ومختلفة.

إيزابيل ماندرو

نقلا عن الحياة