الشَّيخ العلواني.. «داعش» ليست جديدة

الشَّيخ العلواني.. «داعش» ليست جديدة

screen_shot_2015-12-22_at_12.39.51_am

بدأ الفقيه العِراقي طه جابر العلواني (1935-2016) حياته الدِّينية إماماً لجامع حسيبة الباججي بمنطقة الكرادة في بغداد، ومِن هذا الجامع، في يوليو 1963، تنبه لأهمية الحرية الدِّينية، مؤلفاً كتاب «لا إكراه في الدين إشكالية الرِّدة والمرتدين مِن صدر الإسلام إلى يومنا هذا» (الشُّروق: 2003).

لكن ما الخطْب الذي هزَّ كيان العلواني؟ إنه تطبيق الشريعة الإسلامية، أي حد الردة في أكثر مِن عشرة آلاف معتقل عراقي، أيدته فتاوى كبار رجال الدين، من السُّنة والشِّيعة، بطلب من السلطة آنذاك، بعد فشل محاولة إنقلابية قام بها عرفاء وجنود، واشتهر من بينهم حسن السريع (أعدم 1963).

قصة ذلك، أن كلفت السُّلطة الضَّابط عبد الغني الرَّاوي (ت 2011)، بتطبيق الشريعة بالخصوم السِّسياسيين، وأن يأخذ فصيل إعدام وبلدوزرات لدفنهم في قبور جماعية، واشترط الراوي الحصول على فتاوى مِن كبار رجال الدين، وتم استحصالها، ثم ذهب إلى العلواني يستفتيه، قُبيل البدء بتنفيذ الإعدامات (الرّاوي، جريدة الزمان، 9 أبريل 1999).

قال له العلواني: أنا فقيه صغير والفتوى أُخذت مِن كبار العلماء، فما شأني! أجابه الراوي: لأني أصلي خلفك. فنصحه العلواني ألا يتورط بهذه المذبحة، وأن هذه الفتاوى سياسية لا دينية، بعدها ذهب الراوي إلى مجلس قيادة الثورة معلناً عدم التنفيذ، لكن نُفذ ما عُرف بـ«قطار الموت»، عندما كُدس العسكريون المعتقلون في قاطرات حمولة حديدة، وقصة ذلك معروفة.

مِن ذلك الحدث الفظيع أخذ العلواني يبحث في عدم شرعية حد الردة، آتياً بأدلة قرآنية وشواهد فقهية.

اتصلتُ بالعلواني مستفسراً عن صحة وجود الفتاوى، وأسماء رجال الدِّين المتورطين في إصدارها، فأكد لي ما حدث وما أبلغه به الراوي، وما أسفر عنه في فجر تلك الليلة، وأخبرني أنه فَصل ذلك في كتابه «لا إكراه..»، وأرسل لي نسخة منه، وجدت ما كتب مطابقاً لِما كتبه الرَّاوي، مِن ناحية الزمن والمعلومات والأسباب وأسماء المفتين. بعد ذلك قرأت في مذكرات القيادي في حزب «البعث» آنذاك، هاني الفكيكي (ت 1997) مؤكداً صدور الفتاوى، التي دخل بها الراوي أثناء الاجتماع برئيس الجمهورية، وبعدها أكد وقوع الحدث أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة بعد فبراير 1963 في لقاء معه.

فلا مجال لتكذيب وجود الفتاوى، بغطاء ورع مفتيها وزعامتهم الدينية، على أنهم لا يخطئون، فلاعصمة إلا لنبي (لدى السُّنَّة)، ولدى الشيعة الإمامية 14 معصوماً، فما عدا هؤلاء لا عصمة لأحد. إنها تجربة مريرة عندما يدخل رجل الدين في النزاع السياسي ويفتي بقتل جماعي، فبأي قانون وعُرف يُكذب الضحايا ويُصدق السابغون على القتل بركاتهم، وإن كانوا مِن كبار علماء الدين.

أراد العلواني في كتابه المذكور إيقاف القتل، الذي يبرره الفقهاء بالدفاع عن الدين، وبهذا يُشرع القتل، لأنه حق الله يُنفذه رجل الدين. وهذا ما جادل به الشيخ العلواني الإخواني محمد الغزالي (ت 1996)، عندما دخل المحكمة ودافع عن قتلة فرج فودة (اغتيل 1992)، بأن كلّ مسلم له الحق في تنفيذ حد الردة!

لا نرى هذا الفعل بعيداً عما تنفذه جماعة «داعش»، والسلفية الجهادية على العموم، فالأمر بالقتل بسبب ديني يُنفذ كحق الله، وإن كان عشرة آلاف مواطن، لم يحسب المفتون حساب الدِّماء وأحوال الأطفال والأرامل، ولم يحسبوا للخلافات السياسية والنزاعات الحزبية حسابها.

غير أن آخرين لم يتورطوا بتشريع القتل، فعندما طُلب من الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954) فتاوى من قبيل ذلك، قال لطالبيها: أقضوا على المرض والجهل والفقر، بعدها لا يحتاج الشعب لأحزاب وجودها بُني على أساس المطالبة بالقضاء على ذلك الثُّلاثي، ولم يعط فتوى قتل أو تكفير، إنما نصح بالإصلاح الاجتماعي. فحسب المعري (ت 449ه) لا تلاقي بين طموح السياسي وورع رجل الدِّين: «طموح السيف لا يخشى إلهاً/ ولا يرجو القيامة والمعاد».

إنها «داعش»، فما الفرق بين تفجير تنفذه ليقتل المئات، وفتاوى لرجال دين تقتل الآلاف، ويُكذب الضحايا ويُبارك الجلاد باسم الدين. لا مجال للسكوت عن فتاوى الدماء، الصادرة من أي فقيه وعلى أي مذهب، فلا تستغربوا وجود «داعش» وسواها باسم الدين. إنها فتاوى قتل ورث باسم مفتيها الوارثون القصور والعقارات، ولم يتركوا للمواطن شبراً من أرضه. أراها فضيحة أن يرث الوارثون الجاه من مشرعي القتل الجماعي، ويُهدد مَن يكتب عنها لأنه مس المقدسات، وما شُيد مِن إرث عليها.

رشيد الخيّون

نقلا عن الاتحاد