فضيحة هولندية؟

فضيحة هولندية؟

أقدمت السلطات الهولندية على خطوات عدائية غير مسبوقة في العلاقات الدبلوماسية مع الدول وذلك بمنعها السبت الماضي طائرة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو من الهبوط على أراضيها ثم باحتجازها وزيرة الأسرة التركية فاطمة بتول قايا وخمسة من مرافقيها إضافة للقائم بالأعمال التركيّ (وهو، عمليّاً، بمثابة سفير أنقرة هناك) لساعات ومرافقتهم إلى مخفر على الحدود الألمانية حيث ظلوا ساعة ونصف الساعة تعرّضوا فيها، حسب الوزيرة، «لمعاملة فظة وقاسية جدّاً».
الإجراءات الهولندية سبقتها إجراءات ألمانية عديدة كان بينها منع ظهور الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عبر «الفيديو كونفرانس» في مظاهرة لأنصاره تندد بمحاولة انقلاب عسكرية في تموز/يوليو من العام الماضي، كما منعت يوم الأحد 5 آذار/مارس تجمعات للجالية التركية لدعم الاستفتاء على تعزيز صلاحيات الرئيس.
لقي التصعيد الهولندي دعماً رسميّاً من بعض الدول الأوروبية الأخرى فقامت الدنمارك بالطلب من رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم إرجاء زيارة كانت مقررة في العشرين من هذا الشهر وربط رئيس وزراء الدنمارك لارس لوك راسموسن ذلك بـ«التهجم الراهن لتركيا على هولندا»!
مرشح الرئاسة الفرنسي اليميني فرانسوا فيون أدلى أيضاً بدلوه في الموضوع حيث قال إن الحكومة الفرنسية لم تقم بأداء واجب التضامن «مع شركائها الأوروبيين» حيث سمحت لوزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بإلقاء كلمة أمام تجمع جماهيري حاشد على الأراضي الفرنسية.
رد الفعل الشعبي التركي اعتبر ما حصل في هولندا فضيحة، فيما وصم الرئيس التركي الإجراءات الهولندية، والألمانية قبلها، بالفاشيّة والنازية، واعتبر أن الغرب «كشف عن وجهه الحقيقي» موصّفاً ما يحصل برهاب أوروبا من المسلمين (الإسلاموفوبيا).
المسؤولون الغربيون برّروا الإجراءات غير المألوفة ضد كبار المسؤولين الأتراك بكون المبادئ الديمقراطية «تتعرّض لضغط شديد في تركيا» والمقصود بذلك طبعاً اقتراب حصول استفتاء يعزّز من صلاحيات جهاز الرئاسة التركي الذي ستكون له اليد الطولى في تعيين الوزراء والمسؤولين وإقالتهم وهو توجّه لا يجد قبولاً في البلدان الأوروبية وقد أدّت تجارب استفتاء سابقة في الغرب إلى رفض تعديلات دستورية تضعف مؤسسات التشريع والقضاء لصالح الأجهزة التنفيذية.
المفارقة الكبرى هي أن أمر هذه الصلاحيات الرئاسية يعود أساساً إلى الشعب التركيّ نفسه الذي سيشارك في استفتاء لإقرارها أو رفضها، وأن «المبادئ الديمقراطية» في الغرب، تقتضي أن تفتح الباب لإردوغان وأنصاره للترويج لمشروعهم، وهو أمر يعاني، كما لاحظنا تقييداً أوروبيا شديداً، في مقابل السماح للمعادين لإردوغان، من أنصار حزب العمال الكردستاني مثلاً، كما حصل أمس الأحد في السويد، باعتراض الفعاليات وتهديد القائمين عليها.
وهو أمر جرت محاولة شبيهة به في إيطاليا السنة الماضية، وللغرابة فإن بعض الحكومات الغربية، ومنها ألمانيا على سبيل المثال، أبدت تأييداً لتغيير دستوريّ يقلص صلاحيات مجلس الشيوخ بشكل كبير وكذلك يحد من صلاحيات المناطق وإلغاء الأقاليم (ولكن الإيطاليين قرّروا الالتزام بنظامهم ما أدّى لاستقالة رئيس الحكومة ماثيو رينزي).
لا يتعلّق الأمر إذن بتمكين السلطات الأوروبية للأتراك، من أنصار التغيير الدستوري أو خصومه، بالتعبير عن أنفسهم، كما يُفترض بأنظمة ديمقراطية فعلاً، بل بالتعامل مع الأتراك كشعب قاصر عن إدراك مصلحته والدفاع عنها، وهو ما يبرّر، كما نرى، التصعيد ضد إردوغان ومناصريه، تكون فيه التيارات العنصرية الغربية في صدارة المشهد، وهو أمر يظهر تناقضات الأنظمة الغربية، ويفضح محاولة فرض وصاية سياسية على الأتراك تفعّل علاقة تناحرية بين أوروبا وتركيا، على وجه الخصوص، والغرب والعالم الإسلامي عموماً.
وعليه، لا يصعب القول، إن ما حصل في هولندا هو فضيحة بامتياز.

افتتاحية صحيفة القدس العربي