كيف تدعم الولايات المتحدة في صمت المقاطعة الخليجية لقطر

كيف تدعم الولايات المتحدة في صمت المقاطعة الخليجية لقطر

واشنطن – تظهر الولايات المتحدة، على المستوى الدبلوماسي، دعما متزايدا للمقاطعة على قطر، لكن المسؤولين الأميركيين حريصون على ألا يخرج هذا الدعم إلى العلن، سعيا للحفاظ على بقاء قطر ضمن دائرة النفوذ الأميركي في المنطقة.

وتحاول الولايات المتحدة تقييم خياراتها تجاه الأزمة، التي بدأت بمقاطعة السعودية ومصر والإمارات والبحرين في يونيو 2017، وتتحول مع الوقت إلى أمر واقع جديد ضمن الثوابت الاستراتيجية في المنطقة.

وبعد مرور أكثر من عام على الأزمة، أيقن مسؤولون في الحلقة الضيقة المحيطة بالرئيس الأميركي دونالد ترامب أن المخاوف، التي كانت ترسم رؤية وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون لم تكن واقعية، إذ لم تنتج الأزمة مواقف قطرية قد تؤثر على مصالح الولايات المتحدة الأساسية في الشرق الأوسط.

وتقول مصادر لـ”العرب” إن القطريين سعوا خلال الأشهر الماضية لإرسال رسائل طمأنة للأميركيين بأن قطر لن تناور في علاقاتها، التي تنظر لها باعتبارها بدائل استراتيجية حاسمة، بشكل يتناقض مع دورها داخل المحور الأميركي. ويعني ذلك تحول الأزمة إلى نزاع طويل الأمد، كان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد قال إن دول المقاطعة مستعدة للتعايش معه إلى الأبد.

وطالما ظلت تبعات الأزمة غير مؤثرة بشكل مباشر على مصالح الولايات المتحدة، ظل التوافق بين واشنطن من جهة، والرياض والقاهرة وأبوظبي والمنامة من جهة أخرى، قائما على استمرارها. ويعني ذلك دعما ضمنيا أميركيا لإجراءات دول المقاطعة، دون اضطرار الولايات المتحدة لتبني مواقف حاسمة قد تمهد الطريق بشكل مباشر أمام خصوم واشنطن في المنطقة لتحدي مصالحها في الخليج.

ويقول محللون وباحثون في شؤون الشرق الأوسط إن عدم قدرة قطر على اتخاذ خطوة باتجاه المخاطرة بعلاقاتها مع الولايات المتحدة أبقاها، إلى حد كبير، على قيد الحياة.

في برلين، حيث إحدى النقاط الأساسية بالنسبة لقطر للخروج من عزلتها، أعلن أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الجمعة، أن بلاده ستستثمر 10 مليارات يورو (11.6 مليار دولار) في ألمانيا.

وقال الشيخ تميم، في افتتاح المنتدى الألماني-القطري للأعمال بحضور المستشارة أنجيلا ميركل، “نعلن رغبة قطر في استثمار 10 مليارات يورو في الاقتصاد الألماني في السنوات الخمس القادمة”. وتعتزم قطر الاستثمار في قطاعات السيارات والتكنولوجيا المتطورة والمصارف، وهي مكامن القوة التقليدية للاقتصاد الألماني.

وذكرت صحيفة “هاندلسبلات” المختصة بالأعمال أن الدوحة مهتمة بشكل خاص بالاستثمار في الشركات الصغيرة والمتوسطة التي يطلق عليها “ميتلستاند”. ترسم هذه الاستثمارات القطرية ملامح استراتيجية مغايرة تماما لسياسات الاستثمار القطرية، التي شكلت أجندة الصندوق السيادي القطري على مدى عقود.

استثمار اقتصادي أم سياسي
في السابق كانت قطر حريصة على الفصل الجزئي بين السياسة الخارجية في الكثير من الأحيان، والتوسع في الاستثمارات في مناطق جغرافية مختلفة. فعلى سبيل المثال بلغ حجم الاستثمارات القطرية في كل من إندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، بحلول عام 2017، قرابة 30 مليار دولار. وكانت هناك خطة قطرية لضخ 10 مليارات دولار إضافية في السوق الآسيوية.

وفي أفريقيا، بلغ حجم الاستثمارات القطرية بحلول عام 2012 فقط 30 مليار دولار، منها 13 مليار دولار في جنوب أفريقيا وحدها.

واليوم، لم يعد النشاط الاستثماري القطري قادرا على الإبقاء على استمراريته القائمة على توزيع جغرافي واسع النطاق. والسبب ليس تراجع القدرات المالية القطرية أو عجز صندوقها السيادي، الذي يدير أصولا بنحو 340 مليار دولار حول العالم، لكن تغير سياسة قطر الاستثمارية تنبع من محفزات سياسية بشكل رئيسي.

وفرضت المقاطعة على قطر تركيز الاستثمارات في دول غربية كبرى، إذ بلغ إجمالي الاستثمارات القطرية في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة بحلول مطلع العام الجاري أكثر من 135 مليار دولار.

وركّزت قطر خلال العام الماضي، منذ المقاطعة الخليجية، على أوروبا بشكل رئيسي. ففي شهر يوليو الماضي زار الشيخ تميم كلا من فرنسا وبريطانيا، البلدين اللذين تبلغ الاستثمارات القطرية فيهما 40 مليار دولار، و45 مليار جنيه إسترليني على الترتيب.

موقف أوروبا المناهض لسياسات ترامب تجاه الاتفاق النووي الإيراني شجع قطر على وضع استراتيجية تتبنى تعميق الخلافات بين الجانبين في حال ما وجدت نفسها في موقف مشابه للموقف الإيراني فجأة

وفي ألمانيا، حيث يدير صندوق قطر السيادي استثمارات تفوق 25 مليار دولار، اعتقد المسؤولون القطريون أنهم ما زالوا يملكون فرصة للإبقاء على تذبذب الموقف الألماني من الأزمة الخليجية.

ويقول محللون وأكاديميون متخصصون في العلاقات الدولية إن “موقف أوروبا المناهض لسياسات ترامب تجاه الاتفاق النووي الإيراني بشكل خاص شجع قطر على وضع استراتيجية تتبنى تعميق الخلافات بين الجانبين في حال ما وجدت نفسها في موقف مشابه للموقف الإيراني فجأة”.

وتخلق هذه الرؤية من قطر “حليفا لا يمكن الوثوق به” في واشنطن، إذ يدرك مسؤولون كبار في الإدارة الأميركية أن قطر لا تشعر براحة وتفتقر لقدرتها على الحركة في ظل وجود ترامب في الحكم.

وقال دبلوماسيون في لندن لـ”العرب” إن “كل ما يضعه القطريون على أجندتهم خلال زيارات البيع والشراء التي يقومون بها هنا هو سؤال واحد يطرحونه في المقابل: كيف ستدعموننا في أزمتنا مع جيراننا؟ لم نعد نسمع أي كلام من قطر عن أزمات المنطقة الأخرى”.

وانحسار الدور الإقليمي القطري طبيعي، إذ تحولت الدوحة، منذ المقاطعة، من “حلال المشاكل” في الشرق الأوسط، الذي يذهب إليه الغربيون لطلب المساعدة، إلى “صانع المشاكل” الذي يريد الجميع الابتعاد عنه، بعدما طبعت دول المقاطعة وصمة دعم الإرهاب على صورة قطر في الأوساط الشعبية والسياسية الغربية. لكن هذا ليس السبب الوحيد لتراجع الدور القطري، لكن يبدو أيضا أن الدوحة لا تملك خيارات عدة.

بعد تعزيز روابطها مع طهران، باتت الظروف الجديدة تملي عليها تبني مقاربة هادئة في ما يتعلق بسياساتها الإقليمية، بحيث تحافظ من خلالها على “المنفذ الإيراني” لها على العالم الخارجي، في نفس الوقت الذي لا تتورط فيه بتبني الأجندة الإيرانية، أو إثارة غضب الولايات المتحدة، أو مضاعفة الدعم لتنظيم الإخوان المسلمين، الذي لا يحظى بشعبية في أروقة إدارة ترامب.

ترقب فرصة

عقب المقاطعة الخليجية، عزّزت الدوحة من علاقاتها مع الصين وروسيا وإيران، مثيرة بذلك تساؤلات عن قدرتها على المضي قدما باتجاه “الجانب المقابل”.

في البداية أزعجت الخطوات القطرية المتسارعة مسؤولين في الإدارة الأميركية، جادلوا بأن المقاطعة قد تشكل خطرا على “التحالف السني” الذي تقوده واشنطن في مواجهة طهران. لكن مع مرور الوقت، اكتشف المسؤولون الأميركيون أن الإجراءات القطرية لا تخرج عن إطار “الصراع من أجل البقاء”.

ووفر طول أمد الأزمة فرصة أمام قطر لاستكشاف محركات الموقف الأميركي من الأزمة وحدودها، كما ساهم امتناع دول المقاطعة عن تطوير “المقاطعة” إلى “حصار كامل” في بقاء الاقتصاد القطري طافيا على السطح.

وساعد الوقت قطر على استيعاب الاستراتيجية الأميركية. وأدت زيارات متكررة قام بها مسؤولون قطريون لواشنطن، أهمها زيارة قام بها الشيخ تميم، إلى تشكل إدراك مختلف وأكثر واقعية للمواقف الأميركية، جوهره تخفيف الضغوط على الدوحة في العلن، لكن دون الإقدام على تأييدها.

ورغم الملايين من الدولارات التي أنفقتها الحكومة القطرية على شركات العلاقات العامة لتغيير هذا الموقف، وصل القطريون إلى قناعة بأن الجهود القطرية يجب أن تتركز على إبقاء الموقف الأميركي الحالي قائما، دون محاولة خلق تأييد للدوحة تبدو بعيدة المنال. وتخلق هذه المعادلة واقعا توافقيا بالنسبة لجميع أطراف الأزمة. فدول المقاطعة، كما قال الأمير محمد بن سلمان في أكتوبر من العام الماضي، ليست لديها مشكلة في أن تظل الأزمة قائمة إذ تعتبرها “قضية صغيرة جدا جدا جدا”.

كما أن الولايات المتحدة ترى في الأزمة قضية فرعية طالما بقيت في حدود لا تسمح لخصومها بالتحول إلى منافسين واقعيين لها في منطقة الخليج.

وفي نفس الوقت، تفهم قطر أن إدارة ترامب، خصوصا بعد تعيين مايك بومبيو في منصب وزير الخارجية وجون بولتون مستشارا للأمن القومي في البيت الأبيض في مارس الماضي، أن انتزاع تأييد أميركي لها مستحيل.

وتمثل نفس المعادلة محفزا لمواقف الصين وروسيا وإيران، إلى جانب تركيا، من الأزمة أيضا. فالمسؤولون في هذه البلدان يدركون أن قطر غير مستعدة أو قادرة على خلق فرصة تسمح لهم بقلب معادلة القوة في المنطقة، بشكل يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة.

ورغم ذلك، عززت قطر من علاقاتها الدفاعية مع الصين العام الماضي عبر توقيع صفقة شراء منظومة الصواريخ الباليستية قصيرة المدى “أس واي 400”، بينما يقول مسؤولون في المنطقة إن قطر تجري مباحثات مع روسيا لشراء منظومة صواريخ الدفاع الجوي “أس 400”. لكن نفس المسؤولين أكدوا لـ”العرب” أن “الولايات المتحدة سارعت لممارسة ضغوط بشكل هادئ على الدوحة في سبيل ثنيها عن المضي قدما في توقيع هذه الصفقة”.

دبلوماسيون في لندن يقولون إن “كل ما يضعه القطريون على أجندتهم خلال زيارات البيع والشراء التي يقومون بها هنا هي سؤال واحد يطرحونه في المقابل: كيف ستدعموننا في أزمتنا مع جيراننا؟ لم نعد نسمع أي كلام من قطر عن أزمات المنطقة الأخرى”

وفي نفس الشهر الذي فرضت فيه المقاطعة عليها، العام الماضي، أعلنت قطر توقيع صفقة بقيمة 12 مليار دولار مع الولايات المتحدة لشراء مقاتلات من طراز “أف 15”. وفي نهاية العام الماضي أيضا وقّعت قطر اتفاقا بقيمة 6 مليارات جنيه إسترليني مع بريطانيا لشراء 24 طائرة من طراز تايفون.

وفي نفس الشهر أعلنت قطر توقيع اتفاق مع فرنسا بقيمة 16 مليار دولار ستشتري بموجبه 12 طائرة حربية من نوع رافال، ونحو 500 عربة عسكرية، و50 طائرة أيرباص لنقل المسافرين، إلى جانب مشاريع بنى تحتية أخرى.

تحاول الدوحة إقناع الدول الكبرى الأعضاء في مجلس الأمن، إلى جانب دول غربية نافذة أخرى، بموقفها من المقاطعة التي ترى فيها قضية بقاء، في أكبر عملية لـ”شراء المواقف” وأكثر كلفة في تاريخ المنطقة.

لكن لا تبدو هذه الصفقات، التي توقعها قطر باستمرار إلى جانب ضخ استثمارات مثيلة لتلك التي أعلن عنها الشيخ تميم في برلين، الجمعة، مشابهة لصفقات التسليح التي وقعتها الدوحة مع الصين وروسيا.

ويقول خبراء عسكريون إن قطر لا تحاول تغيير مقاربتي بكين وموسكو تجاه الأزمة، لكن تعزيز الروابط الدفاعية معهما نابع من “سياسة الخوف”.

وتدرك قطر أن روسيا، المنخرطة في مستويات متقدمة من المباحثات مع السعودية حول التوصل إلى معدل توافقي لأسعار النفط العالمية، والصين التي تحظى بعلاقات سياسية واقتصادية متنامية مع السعودية والإمارات ومصر خصوصا، لن تضحيا باستثماراتهما في الدول الأكبر حجما والأكثر أهمية استراتيجيا من قطر.

لكن الدوحة تحاول، من خلال صفقات السلاح مع الجانبين، بناء شبكة أمان تجاه تقلبات الإدارة الأميركية الحالية.

ويخشى مسؤولون قطريون من أن تؤدي العلاقات الوطيدة بين قطر وإيران، والدعم المتزايد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لدفع واشنطن لتغيير موقفها بشكل علني، يضع حدا لتحفظها القائم حاليا. في هذه الحالة لن تصبح الولايات المتحدة المورد الرئيسي للسلاح القطري كتقليد قائم منذ عقود.

العرب