الغرب متخوف من عرقلة الضغط الإعلامي لمشروع تحديث السعودية

الغرب متخوف من عرقلة الضغط الإعلامي لمشروع تحديث السعودية

لندن – “إذا كان الغرب يريد إضعاف مشروع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان واتهامه بالوقوف وراء مقتل الصحافي جمال خاشقجي، فإنه يمنح الفرصة للقادرين على قتل ألف خاشقجي”. كان ذلك حوارا بين مراسل “العرب” وأحد الدبلوماسيين البريطانيين السابقين الذين عملوا لمدة طويلة في منطقة الشرق الأوسط.

عكست مقاربة الدبلوماسي البريطاني، وسياسيين آخرين يمتنعون عن إبداء وجهة نظرهم المعارضة للضغط على السعودية، إدراك بعض الدوائر الغربية لخطورة وضع السعودية، بثقلها الاستراتيجي، في الزاوية.

ويتخوف باحثون ومتخصصون في شؤون الشرق الأوسط من أن يؤدي ذلك إلى حدوث هزة جيوسياسية كبيرة، وانعدام للاستقرار في منطقة الخليج قد يستمر لعقود. ينحصر ذلك في الأجندة بعيدة المدى التي تشكل الخطط الاستراتيجية الغربية طويلة الأمد في المنطقة. لكن التخوف الآني يكمن في إعادة العجلة إلى الوراء من دون قصد.

إنقاذ المشروع
عندما صعد الأمير محمد بن سلمان إلى الحكم في السعودية مثّل بالنسبة للكثيرين في الغرب أملا قد ينهي الصورة التقليدية للسعودية باعتبارها بلدا محافظا يصدر فهما منغلقا للدين الإسلامي. ورغم محاولات حكام السعودية السابقين إزالة هذه الأفكار الجامدة عن بلادهم، لم تتدرج محاولاتهم إلى قرارات صعبة تغير نهج المملكة بشكل حاسم.

وقدم الأمير محمد بن سلمان نفسه هذه المرة باعتباره رجل الدولة الإصلاحي القادر على تبني سياسات لم يستطع أحد من قبله التطرق إليها. وتمثل ذلك في تحويل الاقتصاد من الاعتماد على النفط، وفتح أبواب المملكة أمام مشاريع ترفيهية ودور سينما وحفلات ومراكز ثقافية، إلى جانب السماح للمرأة بقيادة السيارة لأول مرة في تاريخ البلد.

الضغط الغربي على السعودية شجع معسكر الإسلاميين مرة أخرى وسمح له بمهاجمة الحكم، بعدما رأى نافذة أمل تفتح له، عبر سياسة ابتزاز يقودها الرئيس التركي بحرفية عالية

لكن الخطوة التي وضعت الأسس أمام تغيير ملامح المجتمع السعودي كانت تحجيم نفوذ الإسلاميين المتشددين وقدرتهم على الهيمنة على مكونات المجتمع. ويمثل ذلك، بالنسبة للغرب، ثورة في الشرق الأوسط أقرب في تأثيرها إلى هدم جدار برلين في أوروبا. ويشعر كثيرون اليوم في عواصم أوروبية وفي الولايات المتحدة أيضا بأن هذا الإنجاز يتم تهميشه لصالح عودة مشروع الإسلاميين المتشددين وسيطرتهم على زمام الأمور مرة أخرى في المملكة.

وتتفق طبقة الليبراليين والمثقفين والنخب الفكرية السعودية في أن أعداءهم الألداء في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (المطاوعة) ينتظرون فرصة كي يعيدوا مكتسباتهم التي حرمهم منها ولي العهد. وتتسم هذه المكتسبات بعدائية شديدة تجاه أي تغيير أو انفتاح، أو أي حقوق تحصل عليها المرأة، أو تغير وضع موازين القوى التقليدية التي تتحكم في معادلة القوة السعودية منذ تأسيس المملكة في ثلاثينات القرن الماضي.

ويخشى صناع القرار الغربيون اليوم أن تؤدي حرب العلاقات العامة والضغط الإعلامي على السعودية إلى توقف ماكينة التغيير “التي تعمل بكل طاقتها” اليوم هناك.

وقال الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات السعودية الأسبق وسفير المملكة سابقا في كل من واشنطن ولندن “من يظنون أن تغييراً سيطرأ على ترتيب ولاية العرش خاطئون”. وأضاف الأمير تركي، في حديث أجراه مع الصحافي الأميركي الشهير ديفيد ايغناتيوس أن السعوديين في الواقع يدعمون ولي العهد بسبب الهجوم الذي يتعرض له حالياً.

وقال الأمير تركي “كلما زادت الانتقادات الموجهة لولي العهد، تنامت شعبيته داخل المملكة. وإذا أجريت استطلاعاً للرأي بين السعوديين اليوم، ستجد أنه أصبح أكثر شعبية مما كان عليه منذ أسبوعين. وهذا لأن السعوديين يشعرون بأن قائدهم يتعرض لهجوم ظالم من جانب وسائل الإعلام الأجنبية. وينطبق ذلك على العائلة المالكة، أيضاً، ذلك أن ثمة شعوراً لدى السعوديين بأن هذا الهجوم يستهدف السعودية والعائلة المالكة، وليس محمد بن سلمان فحسب”.

وجاءت تعليقات الأمير تركي الفيصل عشية الخطاب الذي ألقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، واتهم خلاله سعوديين بارتكاب “عملية قتل بشعة”، لكنه لم يكشف أية أدلة جديدة تؤكد ضلوع الرياض في عملية قتل معد لها سلفاً.وتقول مصادر إن لهجة أجهزة استخبارات غربية عدة بدأت تتغير. وتتضمن التقارير الجديدة “تحذيرات” من أن “استغلال قضية خاشقجي لفرض تغيير بالقوة في السعودية قد يأتي بنتائج عكسية على مصالح الغرب في المنطقة”.

عودة المطاوعة
شكلت أزمة خاشقجي فصلا جديدا من الصراع بين معسكر التغيير والمحافظين في السعودية. ويضم المعسكر الأول كتابا وشعراء وفنانين وموسيقيين ورياضيين وصحافيين وقطاعا عريضا من الشباب الذين مازالوا يرون في الأمير محمد فرصة تعكس طموحاتهم الكبيرة. لكنهم شعروا أن الضغط الغربي على السعودية شجع معسكر الإسلاميين مرة أخرى وسمح له بمهاجمة الحكم، بعدما رأى نافذة أمل تفتح له، عبر سياسة ابتزاز يقودها الرئيس التركي بحرفية عالية.

ويقول كاتب ليبرالي سعودي لسي.أن.أن “من الصعب الدفاع عن سياسات الحكم الحالية فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير، لكن محمد بن سلمان حجم شيوخ المتطرفين، الذين إن جاءتهم فرصة فسيلقون بكل من مثلي في السجون”.

وقال “تخلص ولي العهد من المطاوعة، الذين تحكموا في كل أمور حياتنا. المشايخ المتطرفون خنقوا البلد، حتى تخلص منهم محمد بن سلمان هم أيضا”.

واليوم بات طبيعيا في شوارع الرياض رؤية نساء تخلصن من عباءاتهن السوداء، وقمن باستبدالها بعباءات ذات ألوان مختلفة، بينما تشجع بعضهن في خلع الحجاب. ولأول مرة بات سماع الموسيقى في شوارع المدن السعودية أمرا عاديا، كما صار الذهاب لمشاهدة فيلم في السينما أحد الأشياء الرئيسية على جدول الترفيه لكل عائلة سعودية.

وقال الكاتب الليبرالي السعودي “لا شيء من هذا كان يمكن تصوره قبل ثلاثة أعوام من الآن”. ورغم مركزية القرار المتزايدة في حكم الأمير محمد بن سلمان وتحفظ كتاب سعوديين على بعض نتائجها، إلا أنهم أجمعوا على أن عقاب السعودية من خلال محاولة إضعافه قد يمثل خطرا أكبر كثيرا من بعض الأخطاء في تنفيذ رؤية تغيير ملامح البلد. ويعني هذا أن السعوديين باتوا مستعدين أكثر من أي وقت مضى للتعايش مع “أخطاء” الحاضر لتجنب العودة إلى “كوارث” الماضي.

العرب