“إللي يعيش بالحيلة”

“إللي يعيش بالحيلة”

الحيلة جزء من طبيعة النظام الإيراني. والحيلة هي ما يورثه لأتباعه أينما كانوا. اُنظر في تاريخ ما يسمى بـ”الثورة” الإيرانية لعام 1979، وستجد أن أعمال النصب والاحتيال السياسي والأمني والإداري تشكل عشرة أعشار ذلك التاريخ.

اُنظر في الخطاب السياسي على سبيل المثال. سترى: “الموت لأميركا” و”الموت لإسرائيل”، كشعارين يوجزان كل الغوغائية الأخرى. إنه خطاب لو سمعته ستقول “يا لطيف، على هذه العداوة”. ولكن إيران لم تطلق رصاصة واحدة على إسرائيل ولم يسقط لها قتيل واحد في أي مواجهة مع إسرائيل.

ولئن دفعت إيران تابعها في لبنان إلى أن يخوض تلك المواجهة، فليس بسبب عداوة مسبقة، بل لأن إسرائيل أرادت لأغراضها التوسعية أن “تأكل” من الحصة الطائفية لذلك التابع. لا أكثر ولا أقل. وعندما آثرت إسرائيل أن تعترف بهذه الحصة، صارت العلاقات الواقعية “سمنا وعسلا”، حتى ولو ظلت العنتريات الكلامية قائمة.

وفي الواقع، فإن شعار الموت ذاك، لم يمنع تجارة مخدرات وسلاح كشفت عنها الصفقة الشهيرة “إيران – كونترا”، خلال الحرب ضد العراق، ولا منعت مساعدة الطائرات الإسرائيلية في التدرب على قصف مفاعل تموز العراقي عام 1981.

وبرغم كل الهجمات الكلامية، فقد سمحت الحيلة في النهاية بأن يتم التوصل إلى اتفاق نووي مع إدارة الرئيس باراك أوباما، فأصبحت العلاقات الواقعية وردية، وظل خطاب “الموت لأميركا” قائما أيضا.

ولقد أنشأت تلك “الثورة” نظاما مافياويا يمثل مصالح ميليشيات النظام وأجهزته، يقوده “مرشد أعلى” هو بمثابة “الأب الأكبر”. يحركها كما يشاء، ويعين على رأسها من يشاء، لكي تدين له شخصيا بالولاء.

فإذا حدث أن انفجر الشارع ضد فساد النظام أو انتهاكاته، فإنه يستبدل رؤوسا برؤوس، ويستجلب “إصلاحيين” ليحلوا محل “محافظين”، أو العكس، بينما الأمر كله مخادعات داخلية لامتصاص النقمة. وتظل عجلة الفساد تدور.

والحيلة هي أساس الثقافة السياسية – الدينية التي تنتهجها إيران وأتباعها، وأمثالهم من كل جماعات “الإسلام السياسي”، فبينما تستعير تلك “الثقافة” -وهي شديدة السطحية والهزال- من الإسلام نصوصا، فإنها توظفها على غير المراد منها، وتسترخصها لغايات أرخص، وتبرر من خلالها الجرائم، وتتخذها تعلّة لسوء التدبير. حتى لكأنها إذا ما ألبست الفساد عمامة، فإنه لا يعود فسادا. وحتى لكأن الناس لا يرونه.

و”التقية” في تلك “الثقافة” إنما تعني حصرا أن تقول شيئا وتفعل آخر. و”التقية” أو الكذب، أو الضحك على الذقون، سمها ما شئت، هي في الواقع كل تاريخ “الثورة الإسلامية في إيران”. حتى هذه التسمية نفسها تنطوي على مستوى مماثل من “التقية”، إذ أنها لا ثورة ولا إسلامية، وهي ضد إيران. والكذب فيها عميق إلى درجة أنه وصل إلى حرف الجر.

وعندما اندلعت التظاهرات احتجاجا على رفع أسعار البنزين في إيران، فقد أوجد “المرشد الأعلى” الحيلة للنجاة. فهو دافع عن القرار، ولكنه قال “إن عوائد هذا الإجراء لن تدخل ميزانية الدولة ولكنها سوف توجه لمساعدة 18 مليون أسرة فقيرة في إيران”.

المسؤولون الإيرانيون لم يصدحوا بذلك قبل أن يتم اتخاذ الإجراء. فالغاية الأصلية منه هي تمويل ميزانية الدولة، التي تواجه عجزا، ولم تعد تكفي لتمويل النظام وجماعاته وميليشياته.

لقد بدت الحيلة نوعا من التسليم بأن النظام لم يعد قادرا على المزيد من إفقار الإيرانيين، الذين يعيش 70 بالمئة منهم على ضفاف الفقر أو تحت خطه. وهم إذ يحتجون، فعلى فقرهم، وليس على أسعار البنزين، فهذه قشة قصمت ظهرا مكسورا في الأساس.

والحديث عن وجود 18 مليون أسرة تحتاج إلى معونات هو نفسه فضيحة. فهؤلاء يصلون في الواقع إلى نحو 60 مليون إنسان بحسب حسن روحاني نفسه، من مجموع 81 مليونا.

الحيلة لم تنطل على أحد، على أي حال. فالفقر الذي يرزح تحته الإيرانيون أسوأ من كل حيلة. والعائدات حتى لو تم توزيعها بالفعل على 60 مليونا فإنها لن تكفي لشراء قطعة جبن.

تنتج إيران، بحسب وزير النفط بيجن نامدار زنغنه، 36 مليون لتر من البنزين يوميا. ويفترض بالزيادة أن توفر للخزينة 9 ملايين دولار يوميا. وهو ما يعني أن حصة كل واحد من أولئك الـ60 مليونا سوف تبلغ 16 سنتا من الدولار فقط.

لعله عبقري في العثور على حيلة، لأنها جزء من الطبيعة والموروث والعادات. ولكن عبقريته لم تنظر إلى ما فعلت بكل هذا العدد من البشر، ولا إلى هزال ما تقترحه من معونات.

اُنظر إلى فقر إيران الذي صنعته سلطة الحيلة، وستعرف برهانا آخر على صواب المثل الشعبي العراقي القائل: “إللي يعيش بالحيلة، يموت بالفقر”.

العرب