منذ أن تم تعيين محمد علاوي كرئيس وزراء للحكومة العراقية الانتقالية، وحمى مزاد المقايضة على المناصب الحكومية في تسارع لا يختلف عن مزادات الحكومات السابقة، التي خرج الشباب منتفضين ضدها منذ الأول من تشرين / أكتوبر العام الماضي، ولايزالون يدفعون الثمن غاليا من دمائهم لوضع حد لها. ما لا يريد الساسة الحاليون فهمه أو يتعامون عنه، انتقائيا، هو ان إعادة تدويرهم، في مناصبهم أو اختيار أقاربهم أو من احتل منصبا في حكومات اللصوصية السابقة، انما هو ما تعتبره الانتفاضة السرطان الذي بات ينخر المنظومة السياسية وما بقي من الدولة من أعلى مسؤول فيها الى أصغر موظف، بضمنها كل المستويات الاقتصادية والأمنية. والأخطر من ذلك كله أنه بات جزءا لا يتجزأ من حياة المواطنين. صار أمرا عاديا أما حماية لأنفسهم او ابتغاء منفعة أو مجرد تسيير امورهم. بمعنى آخر، ان الفساد، بأشكاله، لم يعد حكرا على الطبقة الحاكمة، بل تسلل الى بنية المجتمع في دوائر الدولة وموظفيها والى المدارس والمستشفيات كما في الشوارع والمطارات والموانئ والأسواق، وحتى للعائلة والمحلة، مما يهدد بقاءه وجعله لقمة سهلة للإرهاب والتفتت. وهذا هو ما عاشه البلد في سنوات الاحتلال وما افرزه من ميليشيات مسلحة وإرهاب يتغذى على الفساد، خاصة، مع توفر أموال النفط الهائلة، وهو ما ترمي الانتفاضة لاستئصاله.
لذلك، يصر المنتفضون على رفض إعادة تدوير الساسة الحاليين، ليس حبا بالرفض فحسب، ولا لأن شكل الساسة لا يعجبهم او لأنهم مغرمون بالنوم في الساحات بعيدا عن بيوتهم وعوائلهم أو طمعا بالمناصب لأنفسهم، ولكن لأنهم يدركون جيدا حجم الكارثة التي سببها حكم الفاسدين والسراق وما سيجره إبقاءهم في مناصبهم على الوطن.
إن وعي المنتفضين بهذه الحقيقة وجعله أولوية ضرورة واستمرار لما توصلت إليه شعوب بلدان أخرى تعيش مرحلة الانتقال من نظام الى آخر، مع وجود بعض الاختلافات. ففي تونس، مثلا، التي تشكل نموذجا ناجحا للانتقال من نظام استبدادي الى ديمقراطي، لم يعد خافيا ان سيرورة الثورة لن تتم بالشكل الذي يحقق طموحات الشباب في مستقبل مغاير واستقلالية بناء الدولة وحمايتها، ما لم يتم القضاء على منظومة الفساد التي أسسها النظام السابق ولايزال المجتمع، على الرغم من التغير السياسي، وهنا مكمن الخطورة، يعيش يوميات استشرائه.
واذا كانت سيرورة العدالة الانتقالية قد فشلت في العراق بعد محاولاتها في سنوات الاحتلال الأولى، ولأسباب عديدة من بينها عدم القدرة على العمل تحت مظلة الاحتلال، وسياسة حكوماته المحلية الطائفية العنصرية، وغياب الاستقرار السياسي والأمني، فان مسار تحقيق العدالة الانتقالية، بأوجهه المتضمنة المساءلة والحقيقة والكرامة وجبر الضرر، بتونس، لم يؤد النجاح المتوقع وتعثر لكونه، كما يتبين من آخر تصريح أصدره المركز الدولي للعدالة الانتقالية، منذ أيام، بمناسبة عقد مؤتمر دولي بتونس، عنوانه « الحقيقة والمساءلة واسترداد الأموال المنهوبة وكيف يمكن للعدالة الانتقالية مكافحة الفساد «.
إن تشابه ممارسات الأنظمة الاستبدادية القمعية وحصرها الثروة الوطنية بأيدي قلة فاسدة، يجعل لتجربة الشعوب بمواجهة هذا النوع من الأنظمة وتوحيد جهودها للتخلص منها، قيمة تتجاوز حدود البلد الواحد، لتفرض أشكالا من النضال والتضامن
يعزو التصريح سبب التعثر الى «اقتصار ميدان العدالة الانتقالية طيلة سنوات، على العناية بقضايا الحرمة الجسديّة وانتهاكات الحقوق المدنية والسياسيّة»، مبيّنا أنّ بعض البلدان، كالأرجنتين وتشيلي وجنوب افريقيا، ركّزت على جرائم التعذيب والقتل والاختفاء القسري والاحتجاز المطوّل، « دون النظر في الفساد الذي تمّ ارتكابه من طرف المسؤولين «. وقد تم تسجيل استثناءات ملحوظة في عدد من البلدان، فقط، حين يكون بإمكان العدالة الانتقالية أن تضطلع بما يتعيّن عليها وذلك بمتابعة المساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان والفساد على حدّ السواء.
يختلف الوضع في العراق عن بقية الدول التي تعيش تجربة العدالة الانتقالية من نواح عدة لعل أهمها انعدام السيادة، وعدم وجود حكومة تمثل الشعب، وانتهاكات حقوق الانسان المستدامة، واحتلال العراق أعلى قائمة الدول الأكثر فسادا إداريا وماليا، وقد بلغ حجم السرقات في العقود وتهريب العملة مئات مليارات الدولارات، أي أرقاماً لا يمكن للمواطن استيعابها الا اذا تم تقريبها الى 15 ألف دولار للفرد الواحد (اذا كان الهدر نصف الدخل من النفط منذ الاحتلال فقط)، أي مائة الف دولار للعائلة العراقية الواحدة. الا ان متابعة تجارب الشعوب في تطبيق العدالة الانتقالية، كما في تونس وجنوب افريقيا، والاطلاع على خبرتها في مكافحة الفساد واستعادة الأصول المنهوبة والمكتسبة بصورة غير مشروعة، فضلا عن مساءلة الفاسدين، واصلاح القضاء وغيره من مؤسسات الدولة ضروري للاستفادة من نجاحاتها وتجنب اخفاقاتها.
ان تشابه ممارسات الأنظمة الاستبدادية القمعية وحصرها الثروة الوطنية بأيدي قلة فاسدة، يجعل لتجربة الشعوب بمواجهة هذا النوع من الأنظمة وتوحيد جهودها للتخلص منها، قيمة تتجاوز حدود البلد الواحد، لتفرض أشكالا من النضال والتضامن، لن تكون بالضرورة جديدة بل تعيدنا، في بعض ملامحها، الى حقب التحرر الوطني.
وهذا ما نلاحظ تطوره بين الشباب في ساحات التحرير بالعراق وفي الجزائر ولبنان. اذ استعادت المفاهيم التي حاربت الشعوب طويلا لامتلاكها، لأنها حق من حقوقها، كالوطن والحرية والكرامة ومعاقبة الظالمين والفاسدين، الى الواجهة في حيز الوعي المتنامي. وهي ذات القيم التي أراد المستعمر طمرها واستطاع بمرور الوقت، بالتعاون مع طبقة الفاسدين المحليين، أن يحقق نجاحات تبرعمت بشكل حكومات استبدادية وطائفية بالإضافة الى الخنوع امام المحتل.
اتضح عمق مطالبة المنتفضين بالوطن، مع استمرار الانتفاضة واستشهاد الشباب بشكل يومي تقريبا، لتصبح الدعوة الى اسقاط النظام ومحاسبة القتلة و « لا محسوبية ولا منسوبيه»، أساسية لتحديد تركيبة الحكومة المقبلة، وان كانت انتقالية، ولترسخ أسس اية حكومة وطنية مستقبلا. وهي قفزة نوعية تجمع ما بين الطموح بتنظيف السياسة والقضاء والاقتصاد والممارسات التي تخللت بنية المجتمع على مدى عقود. هذه المهام الضرورية إذا ما أُريد للعراق ان ينهض من كبوته، وقد منحت الانتفاضة بشجاعة شبابها وتضحياتهم، بقية أبناء الشعب، الأمل بإمكانية التغيير الحقيقي وليس فقط تدوير الفاسدين وهو ما كان يجري سابقا، كما رفعت من مستوى الوعي بالظلم والإهانة والحرمان من الحقوق من كونه استهدافا فرديا الى كونه جماعيا ووطنيا. وهذا ما لن يتمكن النظام الحالي بكل أسلحته المحرمة، المستخدمة ضد المنتفضين يوميا، وبكل وحشيته ولا اخلاقيته، من القضاء عليه، كما يريد، الى الأبد.
هيفاء زنكنه
القدس العربي