نحن لسنا دولة مؤسسات كي نراهن على أن مصلحة البلاد والعباد ستكون مضمونة، مهما يكن من يتصدر المنصب الأول في الدولة. ففي دول العالم الآخر، قد يتعثر المسؤول ويتصرف بما يتعارض مع مصلحة البلاد، لكن المؤسسات هي من تعيد العربة إلى السكة، وتجبره على السير في الاتجاه الصحيح، فيمتثل مجبرا لا مختارا. وليس في بلادنا فصل بين السلطات، بما يجعل إمكانية وضع رئيس السلطة التنفيذية، أو أي مسؤول آخر تحت طائلة القانون من قبل السلطة القضائية ممكنة.
فالمسؤول الأول عندنا يأخذ كل السلطات دفعة واحدة، ويسخرها لأغراضه الحزبية والطائفية والمناطقية، حتى تصبح السلطة القضائية مجرد تابع ذليل له، تُشّرع القوانين حسب المقاسات التي يطلبها. كما لا توجد لدينا سلطات تشريعية رصينة تمثل الشعب تمثيلا حقيقيا، فتستخدم الثقة الممنوحة لها في إيقاف المسؤول الأول أو الثاني أو العاشر، عند حده إن تجاوز الصلاحيات الممنوحة له. وكيف يتحقق ذلك في ظل المعادلة السياسية القائمة على أساس التهديد بالملفات التي تفوح منها رائحة الجرائم والفساد، التي يملكها كل طرف على الآخر؟ ففتحها يعني خسارة الجميع للمصالح والامتيازات المتحققة من تسنم المناصب.
وأخيرا، ليس من مسؤول في الدولة العراقية يملك أو يعرف ثقافة الاعتذار، فيعلن بشكل صريح تخليه عن المسؤولية إن أخفق أو أخطأ، أو إن ارتكب من بمعيته فسادا أو جرما أو ظلما على العباد. إذن ما الذي سيتغير إن جاء هذا أو ذاك في منصب رئيس الوزراء في العراق؟
هنالك حقيقة ماثلة للعيان في الواقع السياسي العراقي، وهي أن المؤسسات الوطنية الرصينة، التي من صلب واجباتها وضع البلد في الاتجاه الصحيح، والحفاظ على مصالحه القومية قد اندثرت تماما. وأن كل ما نراه من مؤسسات قضائية وتشريعية وتنفيذية، هي مجرد هياكل تشير إلى وجود دولة، لكنها غير متحققة على أرض الواقع. كما أنها تشير إلى وجود حكومات لكنها لا تحكم، لأن سلطة اتخاذ القرار غير موجودة في هذه الكيانات السيادية. هي موجودة في مكان آخر خارج السلطة ومؤسساتها. هي موجودة لدى زعماء الكتل السياسية، وقادة الميليشيات وعصابات الجريمة المنظمة، وهؤلاء هم مجرد أذرع لقوى دولية وإقليمية موجودة على الساحة العراقية، وباتوا لا يتورعون عن الإعلان جهارا بأنهم جنود الإمام الإيراني، ومجسات الإمام الامريكي والغربي. ومنذ عام 2003 وحتى اليوم أصبح كل هؤلاء هم من يأتون برئيس الوزراء، والوزراء وكوادر الصف الأول والثاني وحتى العاشر في دوائر الدولة المدنية والعسكرية، حسب المقاسات التي يضعها صانع القرار في دول الجوار، وما بعد الجوار. وهم من يراقبون أداء السلطة التنفيذية ويجتثونها إن انحازت إلى المصلحة الوطنية ولو شكليا. ولعل موقف مقتدى الصدر، الذي يهدد اليوم إن لم يأتي محمد توفيق علاوي على رأس السلطة التنفيذية، فإنه سيخرج تظاهرة مليونية تحاصر المنطقة الخضراء، حيث مقرات الحكومة وتسقطها، خير دليل على تأثير الزعامات الحزبية والميليشياوية، وحرصهم على استمرارية الشلل الذي يضرب في المشهد العراقي .
شفاء العراق من الأزمات المتوالدة فيه، واستعادة عافيته لن يكون بالإصلاح، بل بالتغيير
إن بناء الدولة العراقية بعد عام 2003 تم بشكل شكلي، ووضعت الطائفية والإثنية والعشائرية والقبلية والحزبية والمناطقية كأسس ثابتة له، بما يضمن سيطرة مستقبلية تامة لهذه الكيانات على جميع أركان هذا البناء. ثم قرر الغزاة أن يعطوا كل فريق من هؤلاء حصة سياسية، ومن هنا أخذت الطائفية والإثنية والمناطقية وظيفة لأول مرة في أن تكون جزءا من السياسة. ومع تقدم الحياة السياسية الطائفية والإثنية، غلبت هذه الكيانات كل النصوص والقوانين، وتقدمت حتى على ما يسمونه دستور البلاد، لذلك وعلى الرغم من أنه دستور أخرق منذ لحظة كتابته، فإنهم يخرقونه في كل ممارسة سياسية يقدمون عليها، لذلك تحول العراق الى حالة اللاهوية، لأن الهوية يجب أن تقوم على عناصر إيجابية لا النفي، في حين أن الحكم الحالي نفى الهوية الوطنية بالممارسة الطائفية والإثنية، ولأنه في حالة من النفي المستمر والمتواصل لذاته المتحققة على الخريطة السياسية الداخلية والمحيطية والدولية، لذلك لم نجد لأي متصدر على رأس أي سلطة فيه، إمكانية حقيقية للتأثير في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني في البلاد. تبع ذلك عدم وجود سياسة خارجية خاصة به كبلد، على الإطلاق، بل كان كلما تأزمت المنطقة سياسيا أو استراتيجيا يصبح هو ساحة لصراعات القوى الخارجية، وتذهب القوى السياسية الممسكة بالسلطة فيه إلى الانشطار إلى فريقين، كل فريق يتخذ أحد جوانب الصراع كعامل مساعد ومؤيد له.
إن تكرار الاستعصاء السياسي والتهديدات المتبادلة بين الكتل والميليشيات في كل مرة يجري فيها تنصيب رئيس وزراء جديد، يدل دلالة واضحة على أن هنالك مقاسات مصالح متشابكة ومتضاربة، لا بد أن يخضع لها كل مرشح لهذه المهمة. وأن نفاذه من هذا الاختبار والفوز بالمنصب مرهون بتعهده لهم بعدم المساس بتلك المصالح، بل الحرص على ديمومتها وعدم الإضرار بها. وهذا هو الوباء الذي يصيب كل من يتصدر المنصب الأول في السلطة التنفيذية في العراق. وهو السبب عينه هذا الذي جعل كل من ترأس الوزارة العراقية منذ الغزو وحتى اليوم، مجرد صفر على الشمال، وكأنهم نسخ مستنسخة عن بعضها بعضا، من دون أثر يبين ولا لمحة عابرة. وسيستمر الوضع كما هو عليه، مادامت المنظومة السياسية التي أتى بها المحتل قائمة، والتي تزدحم بمجموعة كبيرة من الأمراض السياسية التي تشكل كابحا لجماح أي بادرة ممكنة، فتعرقل مسارها وتدخلها في تناقضات تولد تناقضات أخرى. وبالتالي تدفع بمزيد من حالة اليأس وانعدام الثقة.
من هنا جاء الوعي المتقدم، والفهم الصحيح والملامسة الشفافة للمشهد العراقي، الذي نادي به الشباب في ساحات التظاهرات، فقالوا بأن شفاء العراق من الأزمات المتوالدة فيه، واستعادة عافيته لن يكون بالإصلاح بل بالتغيير. ولكي يكون هنالك تغيير حقيقي، لابد أن يبدأ العمل على هدم المنظومة السياسية القائمة. وإبعاد كل القائمين عليها والمتشاركين فيها والمنتفعين منها، كي تعود السياسة لممارسة دورها الطبيعي، في تقديم برامج حقيقية للمجتمع، منهجية وليست مرحلية، فتكون لها القابلية على تحشيد الناس وتجييشهم للوقوف معها لبناء المواطنة كنظام اجتماعي وسياسي. وأن بناء نظام المواطنة يتطلب بناء الدولة الوطنية الحديثة، التي هي الحاضنة الرئيسية لحقوق المواطنة، فلا وجود لمواطنة في دولة غير وطنية. وهذا يتطلب وجود مؤسسات قائمة على عقد اجتماعي، وأسس دستورية حقيقية، وعلى أساس حاكمية القانون، وعلى أساس الحقوق المدنية والسياسية، وكل هذه غير موجودة في عراق اليوم.
إن الإعلان عن برامج سياسية مكتظة بآلاف التصورات والأحلام والأمنيات غير كاف، وإن الوعود بخطط تنموية انفجارية غير كاف، وإن التنازل عن الجنسية الاجنبية غير كاف. فقد سمعنا بكل هذا الهراء على مدى أكثر من عقد ونصف العقد، من دون تحقيق شيء يذكر. وقد حان الوقت للتغير الحقيقي.
مثنى عبدالله
القدس العربي