يكثر الحديث عربياً ودولياً عن جدوى وفعالية جامعة الدول العربية، في ظل التوترات والتقلبات التي يشهدها عالمنا العربي والتحديات الداخلية والخارجية لدولنا، ويثير آخرون ملاحظات وتحفظات على مؤسسات الجامعة وإجراءاتها المختلفة، في حين ترى مجموعة أخرى أن المسؤولية تقع على الدول الأعضاء وحدها باعتبارها صاحبة القرار السيادي.
وقبل توجيه اللوم لهذا أو ذاك، لعله من المناسب التنويه بأن الغالبية العظمى من المنظمات الدولية والإقليمية في أنحاء العالم تتعرض الآن لانتقادات شديدة، تنتقص من مصداقيتها في عصرنا المشحون بقضايا العولمة، والمتواصل مع بعضه تكنولوجياً على مستوى لم يسبق له مثيل، مما يسلط الأضواء وبسرعة فائقة على القضايا العالمية، ويجعلها قضايا جدلية شعبوياً، ويزيد من عجالة حلها وشخصنتها على حساب المؤسسات الدبلوماسية الوطنية والإقليمية والدولية.
وعلى رأس المنظمات محل الانتقاد منظمة الأمم المتحدة، الحاضنة للعمل المتعدد الأطراف، ومنظمة التجارة الدولية، فضلاً عن العديد من المنظمات الإقليمية، وهناك انجراف عام للدبلوماسية الثنائية على حساب المتعددة الأطراف، بل وتنامي نفوذ وأدوار غير الرسمية في تشكيل الأجندة السياسية الدولية والحلول المقترحة حولها، في مرحلة تاريخية يتم فيها إعادة ترتيب النظام الدولي ومؤسساته وتفاعلاته.
ويجب أن يفتخر العرب بأن جامعة الدول العربية التي أنشئت عام 1945، كانت أول منظمة إقليمية، مما يعكس حكمة القيادات العربية حينذاك، وحسن تقديرهم أن التعاون فيما بينهم يخدم مصالحهم الدولية فردياً وجماعياً، وهو تقدير سليم كان سابقاً لعصره.
وأيقن العرب وقتها بالمبادرة والفكر الخلّاق والوعي أن تعاونهم يدعم مصالحهم ولا يمسّ سيادتهم، كما أن لجامعة الدول العربية رصيداً من الإنجازات والمواقف الاقتصادية الذي يجب ألا تُغفل أو يُستهان بها، بصرف النظر عن أنه كأي مؤسسة أخرى يمكن تقويم المسار ورفع كفاءة وأسلوب إدارة مؤسسات الجامعة وإجراءاتها، لتواكب تطور الأوضاع الدولية وتحديات العصر.
وألححت شخصياً كثيراً ومراراً، على أن من أهم أسباب مشكلات العالم العربي عدم ارتياحه لفكرة التغير التدريجي المستمر، رغم أنه سمة من سمات الحياة الطبيعية والحتمية، وتأخر العالم العربي دولاً ومؤسسات كثيراً في مواكبة التحولات الدولية المعاصرة، فبعد أن كنا مبادرين ورياديين اتسمت حركتنا بالبطء ورد الفعل.
وتقتضي الأمانة التنويه أن السعي لإجراء تعديلات على الميثاق قائم منذ 1954، وحدث بالفعل قدر من التطور والتعديل في الإجراءات مثل عقد القمم العربية منذ 1964، ثم تنظيمها، دورياً وسنوياً، واتخذت قرارات مهمة اعتباراً من قمة الجزائر لعام 2005 لإنشاء برلمان عربي، والسماح بمشاركة المجتمع المدني في أعمال المجلس الاقتصادي والاجتماعي، فضلاً عن طرح أفكار أخرى لم ترَ النور حتى الآن لإقامة منطقة تجارة عربية حرة.
وتم عبر السنين استحداث عدد من الأجهزة والمؤسسات في إطار جامعة الدول العربية، منها المجلس الاقتصادي والاجتماعي، والمنظمات العربية والمجالس الوزارية العربية المتخصصة، واللجان الفنية الدائمة وغير ذلك.
ومع تفاقم التوترات العربية الوطنية والإقليمية في العقد الأول من هذا القرن شكّل الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي لجنة خبراء برئاسة الأخضر الإبراهيمي وعضوية غسان سلامة وإياد مدني. وكنت شخصياً عضواً فيها، انتهت إلى وضع أسس لتعديل ميثاق الجامعة، وتصحيح مسار العمل في مؤسساتها، ومن أهم نقاط الارتكاز لعملها كان ضمان مشاركة المجتمع المدني، والشفافية والتعامل مع القضايا السياسية والمجتمعية والاقتصادية المعاصرة، والمؤسسات الواجب تشكيلها لتمكين الجامعة من مواكبة العصر.
وشُكلت بعد ذلك فرق عمل من مندوبين حكوميين بالجامعة، رأت أن هناك عدم وضوح في النصوص الخاصة بمهام المستويات الثلاثة لمجلس الجامعة، القمة والوزاري وعلى مستوى المندوبين، وعدم تحديد الاختصاصات وتشتتها بين الميثاق وملحق الانعقاد الدوري والنظام الداخلي لمجلس الجامعة، فضلاً عن الحاجة لمعالجة المسائل الإجرائية الخاصة بانعقاد مجلس الجامعة ورئاسته واستضافته وآلية اتخاذ القرار بشكل واضح في الميثاق الحالي.
واقترحت عدداً من التعديلات أهمها؛ تخصيص مادتين أساسيتين للمبادئ التي تتعهد الدول بالعمل وفقاً لها، وعلى رأسها احترام سيادة الدول الأعضاء واستقلالها ووحدتها وسلامة أراضيها وأنظمة الحكم القائمة فيها، والحفاظ على المصالح العربية المشتركة بما يتفق مع مبادئ وأهداف هذا الميثاق، وعدم تدخل أي دولة في الشؤون الداخلية لدولة عضو أخرى، والالتزام بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة واحترام المعاهدات والاتفاقيات العربية والمواثيق الدولية، واحترام مبدأ المساواة بين الدول الأعضاء في الحقوق والواجبات، وعدم استخدام القوة أو التهديد بها، وتسوية الخلافات بالطرق السلمية، واحترام المبادئ الديمقراطية وقيم العدل والمساواة وضمان حماية حقوق الإنسان وتعزيز الحكم الرشيد وسيادة القانون.
كما تم التشديد على أهمية نشر قيم التسامح والوسطية، ونبذ العنف والتطرف، ومكافحة الإرهاب بكافة أشكاله ومظاهره، والتصدي له بكل الوسائل، وتعزيز مقومات الهوية العربية، بما في ذلك اللغة والثقافة والتاريخ، وتعزيز الحوار بين الديانات والثقافات والحضارات، وإضفاء البعد الشعبي على العمل العربي المشترك في إطار الجامعة من خلال تنمية علاقات التعاون والشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني العربي والقطاع الخاص وفق الأطر القانونية والتنظيمية المعتمدة.
وسعياً لضمان أن تعكس قرارات الجامعة إرادة الشعوب ودولها أُفرد فصل خاص لنظام التصويت، وتناول هذا الفصل آلية اتخاذ القرار في مجلس الجامعة على كل المستويات، في حالة عدم تحقيق التوافق، وكذلك المسائل التي يكتفى فيها بالأغلبية البسيطة، والقرارات المتعلقة بالتدابير اللازمة لدفع اعتداء دولة على دولة عضو في الجامعة، والقرارات التي يلزم الإجماع لاعتمادها.
وأعتقد أن العالم العربي والجامعة العربية كان لديهما ما يفتخران به من حيث ريادتهما للعمل الإقليمي، غير أنه في الوقت نفسه يجب الاعتراف بأن هناك شعوراً متنامياً أن الدول العربية أصبحت تفضل وترجح مصالحها الوطنية وعلاقاتها الثنائية أو دون الإقليمية على العمل العربي العام، مما أفقد قرارات الجامعة الكثير من مصداقيتها وفاعليتها.
والخلاصة هي أن هناك بالفعل اقتراحات ودراسات وتعديلات مقترحة عديدة من الممكن إقرارها وتنفيذها، إنما على الدول العربية التعامل بنفس المفهوم الاستراتيجي الحكيم لمؤسسي الجامعة منذ نصف القرن الماضي، فالتعاون العربي الاستراتيجي لصالح الكل، ولا ينتقص من السيادة الوطنية للدول.
ويجب تحديث عمل الجامعة بنظرة وأهداف مستقبلية واستثمار التوافق كلما وجد، والتعامل مع وإدارة الاختلافات في وجهات النظر بشفافية، حفاظاً على مصداقية القرارات والدول الأعضاء، هذا فضلاً عن تطوير دور ومسؤوليات الأمانة العامة للجامعة، بما يسمح لها المبادرة الخلاقة بالفكر والتنويه بالمخاطر والتحديات، مع احترام مسؤوليات الدول في اتخاذ القرارات الملزمة لها ولشعوبها.
ونظراً للتحديات الجسيمة التي يشهدها العالم العربي، أقترح أن تشرع الجزائر، حتى قبل بدء ولايتها الرئاسية المقبلة للقمة العربية، في عملية دبلوماسية هادئة ونشطة وغير معلنة مع جميع الأطراف العربية المعنية بالقضايا المختلفة التي تشكل أولوية آنية وعاجلة، بغرض تمهيد الأوضاع لمرحلة جديدة من العلاقات (العربية – العربية) تواجه الأحداث الحالية. وعلى رأسها اتخاذ موقف عربى من التوغل التركى والإيراني على الساحة العربية ومحاولاتهما في الهيمنة على المنطقة، والتصدى لمحاولات تمييع وتكييف أسس عملية السلام العربية الإسرائيلية من قبل إسرائيل، ولتحديد الخطوات التي يمكن اتخاذها من سوريا، التي تجد استجابة لتمكين عودتها إلى الساحة العربية وجامعتها، فضلاً عن إعادة هندسة العلاقة مع العراق، لصالح الموقف العربي على حساب نفوذ إيران، وكذلك لتحريك الموقف في الخلاف القطري مع السعودية والإمارات والبحرين ومصر، رغم أنها قضية أقل أهمية عن الأوضاع بالمشرق، وذلك بهدف أن يصدر بيان شامل أو البيانات عن القمة، كمحصلة عمل عاجل، ومتضمنة خطة تحرك عملية بخطوات وإجراءات تنفيذية محددة.
خطورة الأوضاع الحالية تفرض علينا أن نكون طموحين، وجريئين، وواقعيين في الوقت نفسه، إذا كنا نريد التراجع عن حافة الهاوية السياسية. وصعوبة التوصل إلى اتفاق حول كل هذه العناصر ليست مبرراً للانتهاء إلى صياغات عامة ورنانة غير جادة ولا تنفذ، كما أنها ليست سبباً لعدم بدء التعامل معها، بل يجب التحرك بكل جدية لإصدار ما يمكن إقراره من اتفاقات، أو على الأقل البدء باتخاذ إجراءات لبناء ثقة في المسارات التي لم تكتمل، وتحديد آليات تفاوضية صادقة لمحاولات متواصلة. فالمستقبل السياسي العربى أمام تحديات وجودية. ومحاولات الغير لتغيير هوية الشرق الأوسط، أمور لا تسمح إلا بالتعامل الجاد والصادق، والتعاون العربي رغم صعوبته، هو السبيل الأفضل لصيانة مصالحنا المستقبلية.