حين رفع رئيس الوزراء العراقي الحالي حيدر العبادي شعار الإصلاحات وأصدر قرارات عديدة، اعتبر ذلك بداية حذرة للتغيير ومحاربة الفساد، ولم يفعل ذلك بحكم كونه إصلاحيا، ولا لأنه من حمائم حزب الدعوة الذي انتمى إليه منذ شبابه.
فالرجل من جهة أفكاره يحسب على المحافظين التقليديين. أما حزب الدعوة فليس فيه جناحان أحدهما يضم الصقور والثاني يضم الحمائم، كما صار المصطلح يجري للتفريق بين مَن يهوى العنف، وبين مَن يفضل معالجة الأمور بهدوء، بالرغم من أن الاثنين ينتميان إلى كتلة سياسية واحدة.
بالنسبة إلى حزب الدعوة فإنه لا يضم إلا الصقور. عدوانيته هي انعكاس للفكر الشمولي الذي استند إليه منذ تأسيسه، وهو فكر جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما يفسر لجوءه إلى الأساليب العنفية نفسها التي لجأت إليها جماعة الإخوان عبر تاريخها.
قد يظن البعض أن العبادي حاول أن يستبق الأحداث فلا يبقى منفصلا عما يقع في الشارع لائذا بمغانم المنطقة الخضراء مثلما يفعل بقية أفراد الطاقم السياسي الذين يفاخرون أنهم قدموا إلى السلطة عن طريق الاقتراع العام، أي أن الشعب هو الذي فوضهم للقيام باتخاذ القرارات المصيرية.
في حقيقته فإن العبادي الذي يبدو، ظاهريا، أنه ارتقى سدة الحكم بالصدفة هو رجل حزب الدعوة في الحكم الذي يكرس وجوده في أعلى هرم السلطة التنفيذية وهما سياسيا، سيكون من الصعب محوه أو التخلص منه في المستقبل.
فمثلما صار اختيار كردي من حزب الاتحاد الوطني رئيسا للعراق تقليدا لا يمكن التخلي عنه، فإن رئيسا للوزراء من حزب الدعوة سيكون لازمة للعملية السياسية الفاشلة التي يتم الهروب من فشلها عن طريق اللجوء إلى التهديد بالحرب الأهلية.
كان نوري المالكي، وهو سلف العبادي، في منصبه يحرص دائما على أن يتفادى الجميع الاعتراف بفشل العملية السياسية. من وجهة نظره فإن ذلك الاعتراف سيؤدي إلى انهيار نظام المحاصصة وهو ما يعني (أيضا من وجهة نظره) انهيار العراق. لذلك يمكنني أن أتوقع أن المالكي يعيش الآن أياما عصيبة، وهو يرى العبادي يقلب ملفات الفساد من غير شعور بالخوف مما يمكن أن يجره ذلك اللعب المحظور من انهيار للعملية السياسية، التي كانت، ولا تزال، عبارة عن غطاء رسمي لعمليات الفساد التي كانت تجري علنا وفق مبدأ المحاصصة في المغانم.
ما صار العبادي على بينة منه أن وجوده في السلطة لن يكون جوهريا إلا إذا نجح في التخفيف من سيطرة الفاسدين على العملية السياسية. فالرجل، هو الآخر، يحرص على أن يستمر نظام المحاصصة، غير أنه يريده أقل عنفا وقسوة وجشعا.
غير أن التداخل القائم بين نظام المحاصصة الذي يسمى نفاقا بالعملية السياسية، وبين القبول بالفساد، وهو الشرط الذي صار توفره ضروريا لكي يتقدم المرء في المجتمع، سيجعل من الصعب ضرب أحدهما من غير ضرب الآخر. فحين أصدر العبادي أول قراراته قيل له إن ما فعله يتعارض مع الدستور.
فالدستور العراقي مكتوب بطريقة لا تسمح للعراق بالخروج بعيدا عن مظلة المشروع الأميركي الذي تم تكريسه واقعيا في مرحلة ما بعد الاحتلال.
وهكذا فإن العبادي في محاولته الخروج من المأزق الذي سببته المطالب الجماهيرية إنما يواجه مسألتين شائكتين. أولاهما أنه لم يكن يوما من الأيام يتوقع أنه سيوضع في المكان الذي يُنظر إليه من خلاله باعتباره رجلا إصلاحيا، والثانية تتعلق بموقف الكثير من مراكز القوى ذات النفوذ الواسع الرافض لفتح ملفات الفساد وإعادة الاعتبار إلى القانون، ومن خلاله إلى ارادة الشعب وسلطته. فهل سينجح العبادي في شن الحرب على نفسه وعلى الآخرين في وقت واحد؟
الأصوات التي صارت ترتفع منادية بتخلي العبادي عن عضويته في حزب الدعوة يحلم أصحابها برئيس وزراء عراقي مستقل وحر الإرادة. وهو أمر لن يكون يسيرا بوجود الدستور العراقي الحالي.
على العبادي إذن أن يدعو إلى إصلاح الدستور ليكون ذلك الإصلاح بداية لنفض اليد عن العملية السياسية الملفقة، ومن ثم عزل الفاسدين في أوكارهم القذرة.
فاروق يوسف
صحيفة العرب اللندنية