لطالما بالغت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما بمدى تأثير العقوبات الاقتصادية على تجميد الأصول الإيرانية وبوطأة هذه الإجراءات على النظام. أما الآن، فتواجه الإدارة الأمريكية الجانب الآخر من تلك المغالاة، مع مبالغة منتقدي الاتفاق النووي لنسبة الأصول التي سيتم رفع التجميد عنها وما سيعني ذلك بالنسبة إلى قدرة طهران على تمويل الجهات والأنشطة الخطرة في المنطقة.
أصول مجمّدة أم مقيّدة؟
إن بعض الأصول الإيرانية مجمدة، ويعني ذلك أنه لا يمكن استخدامها من قبل أصحابها (سواء كان هؤلاء الحكومة الإيرانية أو كيانات أخرى). وقد أشار “تقرير الأصول الإرهابية” الأحدث الصادر عن وزارة الخزانة الأمريكية إلى وجود 1.973 مليار دولار من الأصول المالية الإيرانية المجمدة في الولايات المتحدة، و19 مليون دولار من الأصول غير المجمدة (مثل صناديق تابعة لبعثة الأمم المتحدة في إيران، التي تتمتع بحصانة دبلوماسية). وبسبب مشاكل في تقييم قيمة العقارات، لا تشمل الأرقام الواردة في التقرير الممتلكات المادية (مثل المبنى رقم 650 في الجادة الخامسة في مدينة نيويورك، الذي لا تقل قيمته عن 800 مليون دولار، والذي أمرت محكمة بتجميده).
وتخضع أصول إيرانية أخرى لمثل هذه القيود الثقيلة لدرجة قد تكون هي أيضاً مجمدة. فعندما فرض الاتحاد الأوروبي قيوداً مشددة على المعاملات المالية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لم يعد بإمكان البنوك والشركات الإيرانية الوصول إلى الأموال التي كانت تحتفظ بها في أوروبا أو التي كانت مستحقة لها من قبل الأوروبيين. والمثال الأبرز على ذلك هو مبلغ 2.3 مليار دولار الذي تقول شركة “شل” إنها تدين به لـ “الشركة الوطنية الإيرانية للنفط” (“شركة النفط الوطنية الإيرانية”) مقابل إمدادات النفط الخام التي تم تسليمها قبل دخول القيود حيز التنفيذ (عادة ما يُدفع ثمن النفط بعد ثلاثين يوماً أو أكثر من عملية التسليم).
إلا أن أكبر الأرصدة التي غالباً ما توصف بأنها مجمدة هي تلك الموجودة في البنوك المركزية في البلدان التي كانت إيران تبيع لها النفط مؤخراً، لاسيما الصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية. إذ يبلغ مجموع هذه الأصول 50 مليار دولار على الأقل، وربما أكثر من ذلك وفقاً لبعض الحسابات. هذا ويتعلم الإيرانيون كيفية استخدام هذه الأموال لشراء المواد في البلدان التي توجد فيها هذه الموارد المالية؛ ويعني ذلك أن معظم القيود تمنع فقط استخدام الأموال لشراء السلع من بلد يشكل طرفاً ثالثاً. وقد ذكر كل من وزير الخزانة الأمريكي جاكوب ليو وحاكم “البنك المركزي الإيراني” ولي الله سيف أن 20 مليار دولار أو أكثر من هذه الأموال المقيدة مخصصة بالفعل لعمليات شراء مقبلة من قبل الإيرانيين، معتبران أنه لا ينبغي إدراج هذه الأموال في أي حساب للأصول التي ستصبح متاحة لإيران بمجرد تنفيذ الاتفاق النووي. ولتفسير هذا الواقع بطريقة مختلفة، فإن الأموال المعنية لم تكن مجمدة فعلياً منذ البداية، مما يوضح كيف حافظت إيران على إمكانية وصول كبيرة إلى الأسواق الخارجية قبل التوقيع على الاتفاق النووي بمدة غير قصيرة. وينطبق ذلك بشكل خاص على حالة الصين: فقد كان الإيرانيون قادرين على إنفاق أكثر من 20 مليار دولار من عائدات النفط في البنوك الصينية، واستخدام هذا المبلغ لشراء السلع والخدمات الصينية.
قيود حقيقية أم دفترية
في الواقع، إن قيمة بعض الأصول المعلن عنها في حسابات الكيانات الإيرانية هي أقل بكثير من قيمتها المعلنة. على سبيل المثال، يُفترض أن يشمل حساب “البنك المركزي الإيراني” قروض طهران البالغة عدة مليارات من الدولارات إلى “البنك المركزي السوري”، والتي من غير المحتمل أن يتم سدادها. وقد أقرت “الشركة الوطنية الإيرانية للنفط” بوجود مشاكل مع بعض أصولها المعلنة المرتبطة بمشاريع الطاقة في الخارج. وأشار وزير الخزانة الأمريكي ليو إلى “عشرات المليارات من الأموال الإضافية التي هي عبارة عن قروض متعثرة لقطاعي الطاقة والمصارف الإيرانيين”. وفي هذا الإطار، أشار نائب حاكم “البنك المركزي الإيراني” غلام علي كمياب إلى أن الشركات الواقعة تحت إشراف وزارة النفط الإيرانية أقرضت 22.4 مليار دولار لتأمين مشاريع الطاقة في الصين، “ولكن ليس لدى [المقترضين] القدرة الآن على سدادها، وفي “قانون الموازنة” للسنة الحالية مُنحوا عامين لسدادها”. وتكشف تصريحاته وجود احتمال بأن قيمة هذه القروض هي أقل بكثير من 22.4 مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك تُظهر بيانات أخرى من قبل حاكم “البنك المركزي الإيراني” ولي الله أن المصرف قد أقرض “شركة النفط الوطنية الإيرانية” مليارات الدولارات بصورة عملات أجنبية لاستثمارات النفط. وإذا كان ذلك صحيحاً، فليس من الواضح الكيفية التي يمكن بموجبها تحديد قيمة هذه القروض في الوقت الحالي. ومهما كان حجم تلك الأصول المشكوك فيها، فإن واقع الأمر هو أن الخسائر قد وقعت قبل الاتفاق النووي، لذلك فإنه من المبالغة إدراجها ضمن الأصول المجمدة قبل التوقيع على الاتفاق.
الحكومة الإيرانية أو الإيرانيين؟
شملت المبالغات الأخرى ما قبل التوقيع على الاتفاق الإيحاء بأن الحكومة الإيرانية تتحمل كامل العبء الناشئ عن تجميد الأصول. وفي الواقع، إن معظم الأصول المجمدة لا تعود إلى الحكومة.
وإحدى هذه الفئات هي أصول البنوك الإيرانية. فقد صرّح كمياب أن 10 مليار دولار من الأموال المجمدة تعود إلى مصارف تجارية، في حين تتحدث مصادر إيرانية أخرى عن 15 مليار دولار. لكن من الممكن أن يكون قد تم تقدير الرقمان بأقلّ من حجمهما. فوفقاً للتقرير الأخير لـ “صندوق النقد الدولي” حول إيران، شملت البنوك التجارية في البلاد 67 مليار دولار من الأصول الأجنبية اعتباراً من آذار/مارس 2014. ومن المفترض أن بعض هذه الأصول يخضع للقيود، وأن هذه الأموال لا تعود إلى الحكومة الإيرانية. وفي حين أن أهم المصارف الإيرانية مملوكة للحكومة، فإن أصولها تقابل إلى حد كبير مطلوباتها وديونها للمودعين، بما في ذلك عشرات مليارات الدولارات من ودائع الإيرانيين من العملات الأجنبية.
ومن الفئات الكبرى الأخرى للأصول المقيدة، تلك التي تعود إلى “البنك المركزي الإيراني”. فمعظم الأمريكيين، بمن فيهم أغلب محللي الشؤون الإيرانية، ليسوا ملمين جيداً بكيفية عمل البنوك المركزية، مما يجعلهم يخلطون ما بين ميزانية الحكومة واحتياطيات “البنك المركزي الإيراني” من العملات الأجنبية. وفي الواقع، أن الأصول الأجنبية لـ “البنك المركزي الإيراني” ليست أموالاً للحكومة الإيرانية، بل أصول لـ “البنك المركزي الإيراني”، ومَثلُها مثل أي أصول فهي تُقابل بمطلوبات البنك وديونه. وقد جاءت معظم هذه الأصول من مبيعات النفط التي دفع مقابلها الزبائن الآسيويون لـ “الشركة الوطنية الإيرانية للنفط” بالدولار الأمريكي. وبعد ذلك تبيع الشركة تلك الدولارات إلى “البنك المركزي الإيراني”، الذي يودعها في المصارف المركزية في البلدان الآسيوية. وعندما اشترى “البنك المركزي الإيراني” تلك الدولارات من “شركة النفط الوطنية الإيرانية”، أودع ريالات إيرانية لحساب مكتب الشركة في طهران، وقامت الشركة فيما بعد بتوزيعها. بعبارة أخرى، ظهرت المبالغ المالية بالريال الإيراني منذ فترة طويلة كإيرادات في حسابات الحكومة. وما حصل للدولار منذ ذلك الحين قد عقّد من كيفية إدارة “البنك المركزي الإيراني” لاحتياطياته من العملات الأجنبية، ولكنه لم يؤثر على ميزانية الحكومة. وبالتالي، إذا تم تخفيف القيود المفروضة على هذه الأصول التابعة لـ “البنك المركزي الإيراني” والمودّعة لدى المصارف المركزية الآسيوية بعد تنفيذ الاتفاق، فإن ذلك لن يعود بقرش واحد من المدخولات إلى الحكومة الإيرانية.
وفي هذا السياق، من المغري التفكير بأنه عندما تُتاح أمام “البنك المركزي الإيراني” ومصارف [أخرى] المزيد من الفرص للحصول على الأصول الأجنبية، فيمكن لهذه الجهات أن تُقرض للحكومة مبالغ أكبر. ولكن في واقع الأمر يمكن للحكومة أن تقترض بالفعل المزيد من المبالغ من المصارف إذا ما اختارت ذلك. ولا يشكل إقراض الحكومة سوى جزءاً صغيراً من عمليات البنوك الإيرانية. فديون الحكومة محدودة، وقد قدّرها “صندوق النقد الدولي” بنسبة 20 في المائة من “الناتج المحلي الإجمالي”، نصفها متأخرات لم تصبح معروفة سوى في عام 2014. وقد تحسر وزير المالية الإيراني علي طيب نيا على السجلات المالية المزوّرة التي ورثها عن الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، شاكياً من أن الدَيْن الحكومي يشكل في الواقع 25 في المائة من “الناتج المحلي الإجمالي”. ولكن حتى هذه النسبة تُعتبر منخفضة بشكل ملحوظ وفقاً لمعايير الدول الأخرى، مما يوحي بأنه يمكن للحكومة أن تقترض أكثر من ذلك بكثير.
وإذا قامت الحكومة في الواقع بزيادة الاقتراض من البنوك الإيرانية، فإن ذلك قد يسبب [بعض] المشاكل. وعلى وجه الخصوص، يمكن أن يقلل من المبلغ المتاح لإقراض الآخرين، من بينهم الشركات التي تملكها الحكومة وغيرها من المؤسسات التي تتمتع بشبكات اتصال جيدة (وكما يقول الاقتصاديون، قد يؤدي الإقتراض الحكومي إلى “مزاحمة” المقترضين الآخرين). وفي الوقت نفسه، قد يؤدي المزيد من الإنفاق الحكومي المموّل عن طريق الاقتراض إلى تحفيز الاقتصاد. إلا أن الكيفية التي ستتبلور فيها هذه المسألة ستكون مشابهة بغض النظر عما إذا تم تخفيف العقوبات أم لا.
ويقيناً، في حين أن هناك نسبة قليلة مما يسمى بالأصول المجمدة تعود إلى الحكومة، ستستمر السلطات الإيرانية بالاستفادة منها إذا أدى الاتفاق النووي إلى رفع القيود المفروضة على أصول المواطنين الإيرانيين إلى حد كبير، بما في ذلك “البنك المركزي الإيراني”. وهذا الأمر أكثر وضوحاً بالنسبة إلى الأموال المستحقة لـ “الشركة الوطنية الإيرانية للنفط”، مثل مبلغ 2.3 مليار دولار من شركة “شل”. وتشير ملاحظات سابقة من طيب نيا وكمياب إلى أن مجموع هذه الأصول يبلغ 6 مليار دولار.
وبمجرد حصول “شركة النفط الوطنية الإيرانية” على هذه الأموال بالدولار، ستبيعها إلى “البنك المركزي الإيراني”. ومن الناحية الفرضية، فإن المبالغ بالريال الإيراني التي تحصل عليها الشركة من بيع الدولارات لـ “البنك المركزي الإيراني” لا تذهب كلها إلى الحكومة – فالصيغة المنصوص عليها في القانون تشير إلى أن نسبة 14.5 في المائة من المبيعات بالسعر الافتراضي في الموازنة أو بأقل من ذلك، تذهب إلى “الشركة الوطنية الإيرانية للنفط”، بينما يتم تخصيص 20 في المائة إلى “صندوق التنمية الوطنية” الإيراني، و2 في المائة إلى المحافظات المحرومة المنتجة للنفط، و63.5 في المائة إلى خزائن الحكومة. ومع ذلك، فإن الأموال المخصصة للمحافظات و”صندوق التنمية الوطنية” هي في الواقع أموال للحكومة، فكلما ازدادت إيرادات المحافظات من مبيعات النفط، كلما انخفضت حاجتها من ميزانية الحكومة المركزية؛ وفي حين أن “صندوق التنمية الوطنية” هو هيئة عامة غير حكومية لا يسمح لها بإقراض الحكومة قانونياً، فإن إنفاقها لتعزيز التنمية يقلل من الأموال التي يتعين على الحكومة إنفاقها للغرض نفسه. ويبدو أن الحكومة لم تستغل بشكل مباشر نفقات “صندوق التنمية الوطنية” الإيراني على النحو الذي استغلته مع “صندوق الاستقرار النفطي” الأقدم، والذي لا يزال من المتوقع أن يتلقى 85.5 في المائة من إيرادات تصدير النفط بسعر أعلى من الذي تفترضه الميزانية. بيد، تشير تقارير موثوقة إلى أن الحكومة تحد فعلياً من حصة “شركة النفط الوطنية الإيرانية”، وذلك بشكل جزئي من خلال الاشتراط على الشركة تغطية بعض المدفوعات النقدية للأسر – والتي تم عرضها كجزء من تدابير إصلاح الإعانات لعام 2011. كما وأجلت الحكومة ما كان يُفترض أن يكون زيادة في حصة الشركة من العائدات.
وتكمن إحدى الميزات الأكثر وضوحاً بالنسبة للحكومة في منح الكيانات الإيرانية المزيد من حرية الشراء من أي جهة ترغب بها واستخدام مجموعة أوسع من القنوات، مما يسهل بالتالي من المعاملات المشبوهة. على سبيل المثال، إن تقليص القيود سيجعل من السهل على الحكومة إخفاء تحويلات العملات الأجنبية إلى «حزب الله». لكن حتى الآن، لا يبدو أن طهران قد واجهت صعوبات كبيرة في تحويل الأموال لمثل هذه الكيانات، لذا فمن غير الواضح ما هو الفرق الذي قد يُحدثه رفع تجميد الأصول. وبطبيعة الحال، قد تؤدي العقوبات المخففة على العملات الأجنبية إلى تعقيد الجهود الرامية إلى فرض قيود على صادرات الأسلحة أو على عمليات شراء المعدات النووية أو الصاروخية أو ذات الاستخدام المزدوج. بالإضافة إلى ذلك، من شأن مجموعة أكثر تنوعاً من القنوات أن تساعد السلطات الإيرانية – الحكومة الثورية وكذلك الحكومة العادية – في التقليل من شفافية التجارة الإيرانية. ولكن في مجمل الأمور، قد يمثل ذلك ميزة متواضعة فقط بالنسبة للحكومة الإيرانية مقارنة بالوضع الذي تمتعت به على مدى السنوات القليلة الماضية.
وباختصار، لم يكن لتجميد الأصول قبل التوصل إلى اتفاق نووي تأثير كبير على الحكومة الإيرانية كما أشارت بعض التصريحات التي صدرت عن واشنطن. وفي المرحلة القادمة، لن يكون لتخفيف القيود في أعقاب التوصل إلى اتفاق نووي تأثير كبير كما يشير بعض منتقدي الصفقة.
باتريك كلاوسون
معهد واشنطن