في داخل النخبة الأميركية هناك مجموعة من «المناظرات الكبرى» التي تعد جزءا لا يتجزأ من الفكر السياسي الأميركي. فهناك المناظرة الدائمة بين المدرسة «المثالية» وتلك «الواقعية»؛ وهناك تلك التي ترى أن الحياة الأميركية هي امتداد للثورة الأميركية الأولى عام 1776، وهؤلاء الذين يرونها تغيرت إلى ثورة أخرى اجتاحت أميركا في عام 1968؛ وهناك بالطبع هؤلاء الذين يعتقدون أن مشكلة أميركا الأساسية هي أن وجودها في العالم كان منحة طيبة في عالم شرير، في مواجهة هؤلاء الذين يعتقدون العكس تماما، وهي أنها كانت لعنة على الدنيا. هناك بالطبع ما هو أكثر من هذه المناظرات، وكل منها له أبعاده الفلسفية والفكرية التي تنظر في الوجود، وحالة الإنسان، وما يجري في العالم من تطورات، خاصة تلك المرتبطة بتوازنات القوى في العالم، التي نجمت عن الحروب العظمى، والثورات الكبرى. والآن تجري في أميركا مناظرة إضافية تدور حول الشرق الأوسط، أي حول منطقتنا، التي تبدأ باتفاق مثير حول حالته الكارثية من حروب أهلية، ودول فاشلة، ووحشية عنيفة، وثورات مغدورة، وحدود مخترقة.
يجب أن نسجل منذ البداية أن هذه المناظرة الجديدة تتأثر – بأشكال مختلفة – بالمناظرات الأخرى السابقة عليها؛ ولكنها أيضا مستقلة عنها، لأنها تخص منطقة بعينها، وليس دولة مثل الاتحاد السوفياتي، وفيها من التنوع الآيديولوجي الذي يختلف عن الآيديولوجيا الواحدة مثل الشيوعية؛ وهي أيضًا متداخلة تبتعد في معظم الأحوال عن «النقاء» الغالب على المناظرات الأخرى، فضلا عن أنها تتفرع إلى الكثير من المناظرات الفرعية. ولكن المهم في هذه المناظرة، كما هو الحال في المناظرات الأخرى، هو ما يترتب عليها من سياسات؛ فالأميركيون من البرغماتية بحيث لا تكون هناك مناظرة دون أن يكون لها نتائج عملية.
نقطة الانطلاق في هذه المناظرة هي جذورها التي تبدأ من مدرسة سبق لنا التعرض لها والمعروفة بمدرسة الأسباب «الجذرية»، فكل ما نشاهده على ساحة الشرق الأوسط من تنظيمات إرهابية وعنف وحشي، وتفكك للدول، ليس إلا مظاهر مرض أصيل يرجع إلى تخلف الدول المزمن الذي يظهر بوضوح في التقارير الدولية، ونظمها السياسية المستبدة. المدرسة المقابلة ترى فيما يحدث صراعا واضحا على السلطة، سواء كان السبب فيه خلافات مذهبية أو طائفية، ولكن أخطرها الصدام الكبير حول طبيعة الدولة، وعما إذا كانت وظائفها مدنية أو دينية. «الربيع العربي» خفض مناعة الدول، وجعلها فريسة لقوى منظمة ومتعصبة وإرهابية امتدت من أزمنة قديمة، وتحاول الآن إشعال صراع كبير بين العرب والفرس، وبين السنة والشيعة.
دور الولايات المتحدة فيما يجري في المنطقة موضع مناظرة كبيرة بين الذين يرون أنها قد فعلت كل ما في وسعها عندما حاولت عقد السلام بين العرب والإسرائيليين، وتدخلها في العراق وأفغانستان، ومحاولتها تغيير كليهما إلى دولة متماسكة وديمقراطية، ولكنها لم تنجح، لأنها خرجت من المنطقة مبكرا، وقبل أن يؤتي ما زرعته ثماره. هنا فإن أميركا فقدت فرصًا تاريخية لكي تجني نتائج «الربيع العربي»، ولكنها بسبب سياسات أوباما انسحبت في اللحظة الحرجة، وأهدت المنطقة كلها إلى جماعات إرهابية. وجهة النظر الأخرى تقوم على أن أميركا ارتكبت خطأ تاريخيًا عندما تدخلت عسكريًا في الشرق الأوسط، وأن فكرة بناء الأمم بواسطة دول أخرى هي من قبيل الأفكار الخرقاء التي تحاول ليّ عنق التاريخ في بلدان لا تزال تعيش أحداثا جرت قبل أكثر من ألف عام كما لو أنها جرت مساء أمس. ولذا فإن حركة أميركا الآن يجب أن تكون محسوبة، منخفضة التكاليف، وتعتمد على الدبلوماسية والسياسة بأكثر من استخدام القوة العسكرية. المناظرة الثالثة تدور حول «الإسلام» ودوره فيما يحدث في الشرق الأوسط.
ورغم أن إثارة الموضوع، ووضعه على مائدة الإعلام، جاءت من قبل المرشح الجمهوري بن كارسون حينما صرح بأنه لا يمكنه القبول بمسلم مرشحًا لرئاسة الجمهورية، فإن الموضوع ما لبث أن أفصح عن جذور أكثر عمقًا مما ظهر في البداية. كانت حجة كارسون أن المسلمين لديهم «شريعة» يعتبرونها أعلى من الدستور، ومن ثم فإنه لا يمكن التصويت لمرشح لا يعتبر الدستور الأميركي هو الوثيقة الأساسية الجديرة بالاعتقاد والتطبيق. بالطبع فإن هذه الحجة بعد أن تم تدويرها في وسائل الإعلام ما لبثت أن بدأت التعريض بالدين الإسلامي ذاته لأنه في قراءتهم هذه، لا يحترم المرأة، ويحتقر أصحاب الديانات الأخرى، ولأنه في تمجيده للحياة الأخرى يجعل الحياة التي يعيشها مجرد مرحلة انتقالية يمكن التضحية بها بالعمليات الانتحارية أو الاستشهادية. وفي النهاية تنحدر مثل هذه النظرة إلى قصص وأساطير طالما رددها المستشرقون في الماضي، وتناولتها وسائل الإعلام في الحاضر في شكل حالة من السعي للاستيلاء الحضاري لتغيير الحضارة الغربية باستخدام أدواتها المتعلقة بحرية التعبيروالمساواة بين البشر. وللحق فإنه لم يمض وقت طويل، إلا وكانت وجهة نظر أخرى قد برزت إلى ساحة المناظرة، كانت بدايتها من المسلمين، وقوامها أن المسلمين أيًا كانت معتقداتهم في الشريعة، فإنهم يحترمون القوانين والدساتير التي يعيشون في ظلها. مثل ذلك لم يكن كافيًا وكانت فيه شبهة المصلحة، ولكن الأميركيين من غير المسلمين قدموا أن الإسلام مثله مثل الديانات الأخرى في الولايات المتحدة يعبر عن عقيدة وعلاقة بين الإنسان وخالقه، ولكن إدارة الدولة أمر آخر، وأن الفصل بين الدين والدولة يجعل مناقشة الموضوع من الأصل «غير أميركية».
ماذا تفعل أميركا مع الشرق الأوسط الآن؟ مناظرة رابعة ولكنها لم تتبلور بعد، لأنها تتقلب مع تقلب الأحداث، وتتداخل معها قضايا أخرى ليس لها علاقة بالمنطقة، وإنما بالتوازن الدولي، خاصة بعد التدخل الحاد والمثير الذي فعلته روسيا الاتحادية. وبشكل ما فإن حدود المناظرة لا تزال حول التدخل ومداه وتكلفته؛ والعزلة والبعد عن المنطقة التي لا تحب أميركا على أي حال، وبعضهم يعتبرها «شيطانا أكبر»، والتي لا يوجد لأميركا فيها مصالح كبرى، خاصة بعد التغيرات الجارية في السوق النفطية، والتي تعطي لأميركا مميزات لم تكن متاحة لها في التاريخ القريب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذه المناظرة سوف تتبلور أكثر خلال المرحلة المقبلة، لأنها لن تكون فقط في مجال الفكر السياسي أو دراسات العلاقات الدولية، وإنما في صميم السياسة الأميركية التي سوف توضع على مائدة التشريح خلال الأسابيع والشهور المقبلة مع احتدام معركة الانتخابات الرئاسية الأميركية الساخنة التي بدأت مبكرة منذ شهر يونيو (حزيران) الماضي، ولكنها لن تبرد قبل انتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة بعد عام من الآن.
د. عبدالمنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط