يبدو أن ثمة “يساريين” باتوا يخلطون بين فلاديمير بوتين وفلاديمير لينين، بيد أن هذا الخلط ليس بريئا البتة، وإنما يخضع لحسابات سياسية ضيقة، ناجمة عن مساندة روسيا بوتين لـ سوريا الأسد، وقد تعزّز هذا الخلط المرضي بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا.
اللافت أن هذا النوع من “اليساريين” كانوا، قبل ذلك، يرون في بوتين عدوا للشيوعية والشيوعيين، وأنه يتحمل مسؤولية أخذ روسيا نحو نوع من النظام المافيوي، بجرها نحو الليبرالية المتوحشة في الاقتصاد، ونحو الدكتاتورية واحتكار السلطة في السياسة.
هكذا تكمن مشكلة هؤلاء أنهم، في غمرة عماهم السياسي والأخلاقي الناجم عن وقوفهم إلى جانب نظام الأسد، الذي حول البلد (سوريا) إلى ملكية وراثية، مرتهنة لمصالح الحليفين الإيراني والروسي، باتوا يظنون أن روسيا بوتين، هي ذاتها الاتحاد السوفياتي، الذي كان.. وكأن المافيات المالية والأمنية هي ذاتها الحزب الشيوعي، بغض النظر عن رأينا بتلك التجربة التي كانت.
“روسيا اليوم أضحت مجرد دولة لا يكاد أحد يلحظ أنها تضيف شيئا جديدا للعالم في مجال الثقافة والفنون والصناعة والتكنولوجيا والعلوم. بل إن روسيا بوتين، والطغمة الملتفة حوله تكاد تصبح واحدة من بلدان العالم الثالث، في نمط الحكم وتهميش المجتمع، وكبح التطور بعموم المجالات”
المشكلة الأكبر أن هؤلاء باتوا، أيضا، يعوّلون على روسيا بوتين، وينظرون إليها باعتبارها “المخلّص” في الصراع ضد الإمبريالية وفي إنقاذ نظام الأسد، من دون أن يأخذوا في الاعتبار تردي واقع روسيا، في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعلمية، وفي مستوى المعيشة، وإدارة الموارد، ونظام الحكم.
الفكرة أن الرغبات، لاسيما التي تنطلق من بنية أيديولوجية صماء، ومغلقة، تختلف كثيرا عن الواقع، ذلك أن الإمبراطورية الروسية، التي كانت وازدهرت زمن الإمبراطوريات، وضمنه في زمن الإمبراطورية السوفياتية، والتي صاحبها ازدهار الفنون والأدب والرياضة ونمو الصناعة، غابت واضمحلت.
فـ روسيا اليوم، في ظل بوتين، أضحت مجرد دولة لا يكاد أحد يلحظ أنها تضيف شيئا جديدا للعالم في مجال الثقافة والفنون والصناعة والتكنولوجيا والعلوم. بل إن روسيا بوتين، والطغمة الملتفة حوله من رجال المال والأمن، تكاد تصبح واحدة من بلدان العالم الثالث، في نمط الحكم وتهميش المجتمع، وكبح التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والافتقاد للديمقراطية الليبرالية، التي تميز الدول الغربية.
حدود القوة الروسية
حسب ما تفيد الإحصائيات فإن روسيا هذه أضحت بمثابة دولة فقيرة، فهي رغم حجمها الكبير، كأكبر بلد في العالم، مع 17 مليون كلم2، ومع قلة عدد سكانها (145 مليونا)، بالقياس لتلك المساحة الجغرافية الهائلة، ورغم ثرواتها المعدنية والنفطية، فإن مستوى المعيشة فيها منخفض، ومستوى خدمات التعليم والصحة والبنى التحتية فيها مترد، وتعتمد أكثر من أي شيء آخر على صادراتها من النفط والغاز، وعلى صادراتها من السلاح.
وبحسب تقرير التنمية البشرية (2014)، الصادر عن هيئة الأمم المتحدة، فإن متوسط حصة الفرد من الدخل السنوي تبلغ في روسيا 23 ألف دولار (الولايات المتحدة 51 ألفا)، أي أن ثمة 45 دولة أعلى منها، علما أنها تحتل الترتيب 57 في دليل التنمية البشرية.
وفي المقارنة مع الولايات المتحدة التي يبلغ ناتجها القومي السنوي 16 تريليون دولار، فإن الناتج السنوي لروسيا يبلغ 3.4 تريليونات دولار، وثمة دول عديدة أعلى منها، أو تتساوى معها، دون أن تمتلك ثروة نفطية أو غازية، كـ الصين 14.5، الهند 6.3، اليابان 4.4، ألمانيا 3.4، البرازيل 2.8، فرنسا 2.4، بريطانيا 2.2، إندونيسيا 2.2.
أما من جهة حصة الفرد من الناتج المحلي السنوي، فهو في ألمانيا 42 ألفا، فرنسا 36 ألفا، اليابان 35 ألفا، بريطانيا 34.6، إيطاليا 33.7، إسبانيا 31 ألفا، كوريا 29 ألفا، تركيا 18 ألفا، إيران 15.5 ألفا.
أيضا، معلوم أن الولايات المتحدة تنفق 3% من دخلها القومي على البحث العلمي، أي ما يساوي 450 مليار دولار سنويا، بينما تخصص روسيا 1.2% فقط، أي ما يقارب أربعين مليار دولار. كذلك فإن الولايات المتحدة تنفق على التسلح حوالي سبعمئة مليار دولار سنويا، وهو ما يشكل 4.5% من دخلها القومي، لكن ذلك يعادل خمس الناتج القومي الروسي، ونصف مجمل الإنفاق العسكري العالمي.
والأهم من ذلك أن ثمة فجوة علمية وتكنولوجية كبيرة بين الطرفين، إلى الدرجة التي تشكو فيها روسيا من العقوبات الأميركية، ما يجعلها تلح باستمرار على المطالبة بضرورة رفع الحظر عنها، هذا رغم كل ادعاءاتها عن ذاتها بأنها دولة عظمى.
أيديولوجيا السلاح
الأهم من كل ذلك أنه يمكننا أن نتعرف على تردي حال روسيا من حقيقة أنه تكاد لا توجد سلعة واحدة لديها تمتلك المواصفات التي تمكنها من منافسة سلع الدول الأخرى، لا في الملبس ولا حتى في الأدوات المنزلية، ولا في أي صناعة، هذا ناهيك عن “الهاي تيك”، أو المواد الطبية.
“تدخل روسيا العسكري المباشر في سوريا يطمح من ورائه بوتين لتعزيز مكانة نظامه، وهي مغامرة غير محسوبة لا تستند إلى عوامل كامنة في فائض قوة تمتلكها، بقدر ما تستند إلى ضعف الوضع العربي، وما يمكن اعتباره انكفاء لدور أميركا بالشرق الأوسط”
عموما، فقد شهدنا أن روسيا، وطوال قرن كامل، ظلت تعرّف من خلال تصديرها أربعة أشياء: الأيديولوجية الشيوعية، والتعليم لمواطني دول العالم الثالث، والنفط والغاز، والأسلحة، وأنها رغم قوتها العسكرية، فشلت في فرض ماركة واحدة، في السيارات أو التلفزيونات أو الهواتف أو خلاطات الفواكه، أو المواد الطبية.
ولعل مشكلة روسيا الآن أن الأيديولوجيا ذهبت وأن جاذبيتها للتعليم اختفت، وأن الثروة النفطية تدهورت أسعارها، فضلا عن وجود مصادر عديدة منافسة، بمعنى أنه لم يبق أمام روسيا سوى السلاح، وعبر هذه السلعة يحاول بوتين تعزيز مكانته ومكانة دولته، حتى لو تطلب الأمر تدخل وحدات عسكرية روسية، كما يحصل في التورط الروسي المشين في سوريا.
وبشكل أكثر تحديدا، ففي السياسة تآكلت الديمقراطية الروسية، علما أنه ليس لديها تراث ديمقراطي عريق، ولنلاحظ في هذا الصدد لعبة التبادل بين بوتين وميدفيدف، ولنلاحظ غياب المجتمع المدني، وأفول الصحافة، واختفاء المعارضة. ولنلاحظ أيضا أن مجلس الدوما الروسي بات دوره شكليا، مثله مثل مجلس الشعب السوري، وأن هذا المجلس صادق بالإجماع على التدخل العسكري في سوريا، وأن الكنيسة الأرثوذكسية باركت ذلك، وأن القوات العسكرية سارعت إلى العمل دون أي تردد أو سؤال، والمغزى أنه ليس ثمة أحد في روسيا اليوم يقول لا لبوتين، أو يعترض على ما يقوم به.
وللأسف، فهذا هو واقع روسيا اليوم في ظل قيادة بوتين الذي يبحث عن تعزيز مكانته وسلطته بالدخول في مغامرات دون حساب للعواقب التي يمكن أن تنتج عنها، مستخدما في ذلك الشيء الوحيد الذي مازالت روسيا تمتلكه، أي التسلح والقوة العسكرية، لأنها لا تملك شيئا آخر.
من كل ما تقدم يمكن الاستنتاج بأن روسيا دخلت في مغامرة غير محسوبة في تدخلها العسكري المباشر في سوريا يطمح من ورائها بوتين الى تعزيز مكانة نظامه على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهي مغامرة لا تستند إلى عوامل كامنة في فائض قوة تمتلكها، بقدر ما تستند إلى ضعف الوضع العربي، وإلى ما يمكن اعتباره انكفاء لدور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لأغراض تخصها.
وعلى أية حال فإن هذا التدخل هو تطوير للدور الروسي المساند لنظام الأسد، إذ أن روسيا بوتين ظلت طوال السنوات الخمس الماضية بمثابة الدرع الواقي لهذا النظام على الصعيد الدولي، وضمنه في مجلس الأمن الدولي، باستخدامها حق النقض عدة مرات، حتى بما يتعلق بوقف القصف الجوي، وبدعمها له عسكريا واقتصاديا، مع إيران.
وقد شهدنا أن روسيا هذه بذلت جهدا كبيرا في تشويه مطالب السوريين، وطمس توقهم إلى الحرية والكرامة، بادعاء أن ما يجري بمثابة حرب أهلية طائفية ودينية، وأن الجماعات الإرهابية هي المتسببة فيها، بل إنها لم تدخر جهدا للتأثير على جماعات المعارضة، وخلق البلبلة في أوساطها، ويأتي ضمن ذلك إصرارها على تفسيرها الخاص لبيان جنيف1 (عام 2012)، القاضي بإنشاء هيئة حكم انتقالية في سوريا، بكامل الصلاحيات التنفيذية، بادعائها أن ذلك لا يشمل رحيل الأسد.
مآلات التدخل الروسي
الآن، ثمة أسئلة تطرح نفسها من قبيل: لماذا تتدخل روسيا إلى هذه الدرجة؟ وما هي مصلحتها في ذلك؟ وهل هذا سيخدمها حقا أو يعزز مكانتها في الصراعات الدولية، سيما في التنافس مع الولايات المتحدة؟
في محاولة الإجابة عن أسئلة كهذه يذهب البعض إلى الحديث عن قاعدة طرطوس البحرية، وأهميتها للأسطول الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وثمة من يحيل الأمر إلى العوائد الاقتصادية في العلاقة بين روسيا وسوريا، بل إن الخيال يذهب بالبعض حد الحديث عن وجود حقول غاز مهمة قبالة الساحل السوري، وطبعا ثمة من يفسر ذلك بدعوى رد فلاديمير بوتين على ما جرى في أوكرانيا.
ومن دون بخس كل هذه الإجابات حصتها من الحقيقة، فإن السبب الأكثر ترجيحا يعود إلى طبيعة النظام الروسي، في ظل “القيصر” بوتين، فهذا النظام يجد في النظام السوري مثيلا له، والأهم أن الرئيس الروسي يريد أن يثبت شيئا لذاته، ولشعبه.
“الولايات المتحدة تكاد تكون مستنكفة عن التدخل في رمال الشرق الأوسط المتحركة، وهذا ما يشجع روسيا بوتين على إبداء الجرأة على ملء الفراغ، بمعنى أن الأمر منوط بالهامش المتاح أميركيا لروسيا”
وتفسير ذلك أننا في حالة روسيا، أيضا، إزاء نظام استبدادي مافيوي، يتحكم فيه بوتين في كل صغيرة وكبيرة، ويفرض هيمنته على الشعوب الروسية بقوة الجيش والأجهزة الأمنية، مع السيطرة الحديدية على الموارد والاقتصاد ووسائل الإعلام والتعليم. المهم أنه بسبب من كل ذلك لا أحد في روسيا يستطيع أن يسأل بوتين، ماذا يفعل، ولا إلى أين يأخذ روسيا، أو ما هو ثمن ذلك، أو ما تداعياته على روسيا واقتصادها وأمنها. أيضا قد يجدر الانتباه إلى النواحي الآتية:
الأولى، أن الولايات المتحدة الأميركية تكاد تكون مستنكفة عن التدخل في الرمال المتحركة للشرق الأوسط، وأن هذا الاستنكاف، بالذات، هو الذي يشجع روسيا بوتين على إبداء الجرأة على ملء الفراغ، بمعنى أن الأمر منوط بالهامش المتاح أميركيا لروسيا.
والثانية، أن الولايات المتحدة في هذه السياسة ربما تتوخى إغراق روسيا، أو توريطها، في المستنقع السوري، في تكرار للتجربة الأفغانية (وربما أنها تتعمد ذات الشيء مع إيران).
والثالثة، أن التورط الروسي في سوريا سيحمّلُ الاقتصاد الروسي أعباء كثيرة، في ظرف تتراجع فيه موارد روسيا المالية مع هبوط أسعار النفط، ما يوقعها في مشكلات كبيرة تذكّر بواقعة انهيار الاتحاد السوفياتي السابق.
والرابعة، أن روسيا غير قادرة على تحدي الولايات المتحدة، لا اقتصاديا ولا تكنولوجيا، ولا عسكريا، بدليل أن روسيا، ذاتها، تشكو من بعض أشكال الحظر الذي تفرضه الولايات المتحدة عليها.
القصد أن روسيا بوتين يمكن أن تقوم بأشياء كثيرة في ظل غياب أو انكفاء الولايات المتحدة، ولكن ما هي عواقب ذلك؟ وإلى متى؟
أخيرا، يمكن أن يكون لنا ألف ملاحظة وملاحظة على السياسة الأميركية إزاء قضايانا، لكن هذا لا يلغي أن روسيا بوتين -وهذه غير روسيا المتخيلة (الاشتراكية)-لا تقف على الجانب الصح من التاريخ، ولا إلى جانب العدل، فهي تتصرف كدولة إمبريالية وغبية وعنيدة، وضد إرادة الحرية عند شعب آخر بدعمها لنظام ظالم واستبدادي وميت، بكل معنى الكلمة، وفوق كل ذلك فهي تنسق في كل شيء مع إسرائيل، وهذا ليس تفصيلا ثانويا.
ماجد كيالي
الجزيرة نت