مشكلة السودان منذ الاستقلال هي عصبيات قواه المدنية الحاكمة والطموحات الجامحة لضباطه الانقلابيين، وأبرز رصيد له هو قدرة شعبه على إسقاط أكثر من انقلاب عسكري بانتفاضة سلمية هتفت إحداها “إلى الثكنات يا حشرات”، من إسقاط الجنرال إبراهيم عبود إلى إسقاط الجنرال جعفر النميري ووصولاً إلى إسقاط الجنرال عمر البشير، والآن انقلاب على الانتفاضة الشعبية وحكومتها المدنية، وقتال على السلطة بين الجنرال عبدالفتاح البرهان قائد الجيش والجنرال محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع.
الجيش يقول إنه رابح ويرقص بالعصا، والدعم السريع يقول إنه رابح ويرقص بالعصا، والخاسر المؤكد هو الشعب، فليس بين الانقلابيين جنرال مثل عبدالرحمن سوار الذهب الذي سلّم السلطة إلى المدنيين في الموعد المحدد، وهو كان استثناء من القاعدة في العالم العربي والعالم كله، وبين المدنيين من خارج الاصطفافات التقليدية أكثر من نموذج يشبه رئيس الوزراء الراحل أحمد محمد محجوب الذي كان يتنقل بين السلطة والمنفى، وهو مثقف وأديب وشاعر وظريف قبل ذلك، لكن العسكر يسدون الطريق أمامهم.
المحنة طويلة، شعب مسامح ومسالم وطيب يتألف من مسلمين ومسيحيين ووثنيين ويجمع الأصول العربية والأصول الأفريقية يُراد تطبيق تأويل متشدد للشريعة الإسلامية عليه، وهكذا فعل جعفر النميري فاصطدم بانتفاضة مسلحة في جنوب السودان يقودها جون قرنق المطالب بنظام ديمقراطي في السودان لا بالانفصال، ثم انتفاضة شعبية سلمية في الخرطوم.
وهكذا فعل عمر البشير الذي جاء به حسن الترابي لتطبيق رؤيته لحكم الإسلام السياسي، فانقلب على الترابي ولعب على مدى 30 عاماً سياسة “التمكين” للإخوان المسلمين من أجل “أسلمة المجتمع والدولة”، وهذه المرة صارت حرب الجنوب حرب انفصال عن السودان تدعمها قوى إقليمية ودولية أجبرت البشير على التسليم بقيام دولة مستقلة جنوب السودان.
ومن الصعب تصور البرهان وحميدتي خارج المناخ الذي فرضه البشير وأعاد على أساسه بناء الجيش ضمن أيديولوجيا “الإخوان المسلمين”، وأنشأ قوات الدعم السريع، وليس تسارع الدول إلى إخراج دبلوماسييها ورعاياها من السودان ووقف العمل بسفاراتها حتى إشعار آخر، سوى إشارة واضحة إلى أن حرب الجنراليين مستمرة لوقت طويل، وهي حرب لن ينتصر فيها بشكل كامل أي من الطرفين، ولا أحد يصدق خطاب كل منهما عن كونه يقاتل من أجل عودة الحكم المدني عبر”الاتفاق الإطاري” الذي بدأت الحرب للهرب من تطبيقه حين وصلت ساعة التوقيع عليه وتطبيقه، ولا شيء يمنع الميليشيات التي أنشأها البشير لضمان “التمكين” من التدخل في القتال على أمل أن تنتهي اللعبة في يد سادتها، وكل شيء يوحي بأن القوى الإقليمية والدولية التي لعبت أدواراً في الصراع السوداني من أجل أهداف تخدمها تكمل أدوارها حالياً في تسليح الطرف الذي تدعمه كل قوة، وإلا كيف يمر كل هذا الوقت ضمن زخم كبير في إطلاق النار من دون أن يشكو أي طرف من نقص الذخيرة التي يبدو أنها تصل إلى السودان بطرق عدة.
وفي حرب بلا نصر واضح فإن الفوضى هي التي تسود، لا داخل السودان فقط بل أيضاً خارجه، فالسودان واسع المساحات، وكأنه شبه قارة ومحوط بثمانية بلدان هي مصر وليبيا وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وجنوب السودان وإثيوبيا وإرتيريا، وأي فوضى فيه تهدد بالانتشار في أكثر من بلد إلى جانب تهريب السلاح وحرية الحركة للإرهابيين، وبدل معالجة الفقر والبطالة في السودان عبر سياسات اقتصادية تستثمر الثروات الطبيعية وفي طليعتها الذهب الذي يسيطر عليه الدعم السريع في دارفور، يأتي الدمار ومزيد من الخراب الاقتصادي والبحث عن فرص للخروج من البلد إلى أي مكان بحثاً عن الأمان والعمل، فضلاً عن أن حرب الجنرالين، التي هي أخطر حرب على أكبر انتفاضة شعبية سلمية، تفتقر إلى أية حماسة شعبية إلا لدى الحالمين بعودة البشير و”الإخوان المسلمين”.
الحاكم البريطاني الأخير للسودان ترك وراءه معادلة عند الخروج منه وهي قوله إن “السودان بلد صعب لا يحكمه إلا نبي أو غبي”، وقد شهد الحكم أغبياء وأشباه أنبياء بالادعاء، وحان الوقت لأن يحكمه الحكماء والأنقياء والرحماء.
رفيق خوري
اندبندت عربي